الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

ماهر صموئيل يكتب: القولبة (1)

ماهر صموئيل
ماهر صموئيل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إنه ليس كل خطأ انتشر وساد في المسيحية بدأ بقصد أو عن عمد، وليس كل خطر محدق الآن بشهادة الله في وسطنا مكشوفًا وواضحًا لعيوننا، أعتقد أن القولبة هي من أخطر تلك الأخطاء التي انتشرت في المسيحية عبر القرون، وهي تحاصر بشدة شهادة الله بيننا، بل أعتقد أيضًا أنه كما تمسك بعض الأمراض الخطيرة بجسم الإنسان لمدة طويلة دون أن يفطن ضحيتها لوجودها، ثم تظهر فجأة على السطح بعد أن يكون قد فات أوان العلاج؛ هكذا القولبة.
ولستُ في هذا المقال بصدد بحثِ مختلف جوانبها، لكن مجرد إلقاء ضوء عليها لكي يحذر القارئ منها، فاتحًا قلبي وعقلي لكل نقاش جاد بخصوصها.
لنبدأ بتعريف ما أقصده بكلمة "القولبة"، هي كلمة يمكن اشتقاقها من كلمة قالَب، والقالب هو ما تُفَرّغ فيه الجواهر وغيرها ليكون مثالًا لِما يُصاغ منها. وعليه فالعملية نفسها أي عملية صب المادة المنصهرة في قالب له شكل محدد وثابت لكي تأخذ هذه المادة بعد تجمدها نفس شكل القالب الذي صُبت فيه؛ يمكن تسميتها بالقولبة.
وهذه العملية، كما يعلم معظمنا، صارت عصب الصناعة وقاعدتها في العصر الحديث. فالإنتاج الكمي (Mass Production) الشعبي (الذي يركز على الكم دون النوع لكي يرخص سعره ويزداد انتشاره)، لا بد له من القولبة، لذلك فمن إنتاج الأسلحة والسيارات والماكينات الضخمة وحتى التحف ولعب الأطفال؛ صار الكل يعتمد على القولبة. ولم يَعُد إلا القليل جدًّا في العالم ما يُنتج دون هذه العملية، وهو ينتج للخاصة وبأسعار باهظة جدًّا، إذ إنه بحق ثمين لسبب بسيط وهو تفرُّده وتميُّزه. وعليه فحيثما زاد العدد ورخص الثمن، هناك القولبة. ولكن بالطبع لا أقصد أبدًا مناقشة القولبة في معناها الحرفي، بل أقصد مناقشة مرض روحي خطير، لم أجد له اسمًا أفضل من هذا الأسم، فما هي.
القولبة الروحية
وهي ببساطة تصنيع قوالب روحية، أي تحديد وتمجيد إطار وشكل روحي معين، ثم دفع أولاد الله دفعًا. وخلال الترغيب والترهيب نحو هذا القالب وصبّهم فيه، حتى إذا تجمّدوا فيه، مع الوقت صاروا نسخًا طبق الأصل من هذا القالب.
القولبة المقاومة
ولا أعتبرها مبالغة مني إذا قلت إن هذه العملية ليست فقط مرضًا خطيرًا، بل هي أيضًا شر كبير، فمن يدرك قصد الله الأزلي من جهة بيته، سيرى أن القولبة هي مقاومة واضحة لإفساد قصد الله من جهة بيته "من يفسد هيكل الله، سيفسده الله" (١كو١٧:٣). فما هو...
قصد الله من بيته:
إن القصد الأساسي من وجود بيت لله هو أن يوجِد الله لنفسه مجالًا خاصًّا، قريبًا منه جدًّا، يستعرض فيه نفسه ويرى فيه ذاته، فيُستحضر كل مجد الله الداخلي للخارج على أحجار بيته، لكي يصبح في متناول عيون كل خلائقه.
وكما ظلّ الله لآلاف السنين يستعرض مجد قدرته من خلال استعراضه لجمال خليقته أمام عيون البشر، هكذا قصد الله أن يوجِد لنفسه شيئًا يستعرض فيه، ليس مجد قدرته فقط، بل كل مجده. وليس لفترة معينة، وإن كانت آلاف السنين، بل لأبد الآبدين. وليس لعيون البشر فقط، بل لعيون كل خلائقه. ولم يجد الله مشروعًا يحقق كل هذا إلا أن يبني لنفسه بيتًا روحيًّا من أحجار حية، وهذا البيت هو كنيسة الله الحي.
هذا القصد يتضح من بطرس الأولى ٥:٢ حيث يُخبرنا الرسول أننا أحجار حيّة نكوِّن هذا البيت الروحي، لنُخبِر بفضائل (أي نُظهر صفات وسجايا وأمجادَ) الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب.
كذلك الرسول بولس وهو يتكلم عن الكنيسة في رسالة أفسس، وبعد أن أوضح لنا في صحاح 2 كيف كوّنها الله من يهود وأمم (لاحظ التنوع)، وجعلها مسكنًا لله في الروح الآن على الأرض، وأن هذا المسكن سينمو ويكتمل ليُصبح في المستقبل هيكلًا مقدسًا في الرب (أف ٢١:٢)؛ ذكر لنا في إصحاح 3 هذه الحقيقة: أن الله له المجد في الكنيسة إلى جميع أجيال الدهور(أف ٢١:٣).
كما أن الرسول يوحنا أظهر لنا في رؤياه أن الكنيسة وهي نازلة من عند الله سيكون لها مجد الله ولمعانها شبع أكرم حجر كحجر يشب بللوري (رؤ ١١:٢١)، ولا تنس أن اليشب هو نفس الحجر الذي أشير به إلى مجد الجالس على العرش في رؤيا 4.
مما سبق يمكننا أن نستخلص الآتي:
• أنه لا مجال للشك أن الكنيسة، كبيت لله، هي مجال استعراض جماله وكماله، أي مجده.
فكل شيء في هيكله يقول ويتكلم مُعلنًا مجده (مز ٩:٢٩). وكل مَن يريد أن يتفرس في جمال الرب، فليس أمامه سوى التفرس فيه في هيكله (مز ٤:٢٧).
• أن الكنيسة، وإن كانت لؤلؤة واحدة، لكنها ليست حجرًا واحدًا، بل أحجارًا كثيرة.
• أن إمكانية هذه الأحجار لإظهار مجد الساكن في البيت، تعتمد بالكُلية على اختلافها وعدم تشابهها. فالأحجار المتشابهة أحجار رخيصة، بينما أحجار بيت الله كلها أحجار كريمة. ومن القديم عندما أراد الله أن يشير إلى هذه الأحجار التي ستكوِّن شعبه وبيته باعتبارهم محمولين على قلب المسيح، أشار إليهم بأحجار مختلفة بحيث لم يكرر حجرًا من الاثنى عشر حجرًا.
ومن الطبيعة نتعلم أنه لا يوجد حجر كريم واحد، مهما كان ثمينًا، يمكنه أن يُظهر كل الجمال الذي يحويه النور إذا سطع عليه. فإذا أردت إظهار إمكانيات النور الحقيقي للساكن في البيت، لا بد من اختلاف وتنوع الأحجار.
وأيضًا من الحياة نتعلم، فالفنان الذي أجاد في لوحة فكرَّرها، وأصبح كل مرسمه نسخًا منها، هو فنان فقير. لكن الفنان القدير الغني في إبداعه، يزيّن مرسمه بلوحات لا تتشابه الواحدة مع الأخرى، كما يقول الرسول في أفسوس 2، "عمله"، أي لوحته أو تحفته. وبما أن الله هو الذي ؟؟؟؟؟، فلا بد من إظهار مجده في تنوعها.
وأعتقد أن مَنْ يتأمل بدقة في كلمة الله أو في حياة إخوتنا المؤمنين مِن حولنا، سيلحظ شيئين في منتهى الروعة يظهران مجد الله وروعته:
أولًا: مهما تشابهت ظروف رجوع اثنين من الخطاة إلى الرب، إلا أنك لن تجد على الإطلاق تطابقًا بين الاختبارين. فكل مؤمن يختلف عن الآخر في اختبار رجوعه للرب. 
ثانيًا: لا يمكنك إطلاقًا أن تجد تطابقًا بين اختبارات اثنين من المؤمنين في أثناء حياتهما على الأرض. فالمعاملات الإلهية تختلف من واحد لآخر، فكل واحد يصاغ في ظروف تختلف عن الآخر. حددتها يد الفنان القدير، يستهلك منه جهدًا عظيمًا وسنين طويلة، ليصوغ من كل واحد إناء مختلفًا يتفرد ويتميز عن الباقين بسمات شخصية معينة وأسلوب معين ومواهب معينة يخدم بها قصد الله في بيته. إذ يشغل المكان المحدد له في المنظومة الكبرى التي خططها الله لتئول في النهاية لإظهار مجده.
وعليه فيمكننا القول إن الفنان القدير قطع كل حجر من محجره بطريقة تختلف عن الحجر الآخر، حتى وإن كانت جميع الأحجار من محجر واحد. وإن الفنان أيضًا يصوغ وينحت ويشكل كل حجر بأدوات وطرق تختلف من حجر لآخر، تجعله في النهاية مختلفًا عن بقية الأحجار، حتى وإن كانت جميع الأحجار من خامة واحدة. 
أو يمكننا القول إن المسيح، في كل يوم من ألفي عام من بعد قيامته وحتى الآن يرى نسلًا، وذلك في كل بقاع الأرض، وعلى الرغم من هذه الكثرة الرهيبة فأنت لا تجد في هذه العائلة الكبيرة توأمين متماثلين.
من هذا يتضح لنا أن من يحدد قالبًا معينًا يريد أن يصب جميع أولاد الله فيه ليكون كل أولاد الله نسخًا مكررة من صورة معينة في ذهنه، هو ليس فقط يجهل فكر الله، بل إنه يقاوم فكر الله الذي يريد التمايز والتفرد لكل واحد من أولاده.
وإني أتساءل مندهشًا: إذا صار جميع أولاد الله متشابهين، فأين الجسد وأين جمال اللوحة الإلهية؟ 
وأين مجد البيت الذي يقوم على انعكاس النور من على أحجار لا تتشابه؟ لماذا زين الله أساس سور أوراشليم باثني عشر حجرًا ولم يختر أثمنها ليكون هو وحده زينتها؟
والآن دعنا نحاول أن نكتشف كيف ولماذا تحدث القولبة، ولهذا حديث آخر.