الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداع "البوابة".. قطار درجة رابعة قصة قصيرة لـ"منار منير"

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مرت 3 أعوام منذ آخر مرة استقَلت ذات القطار القديم وجاورت نافذته، التي باتت مرآة سحرية تنقلها لأحلام جديدة وتحيى أفكارًا مدفونة، حينها تزاحمت برأسها الذكريات، كم مرت من رحلات والجميع يشاهد ذات المناظر بذات الاهتمام، وكأنه يشاهدها لأول مرة. 
كأن للنافذة سحرًا خاصًا، تشعر كما لو أنك تتخلى بها عن العالم، لتكن فى حضرة المبانى البسيطة المتخلية عن أى شكل من أشكال البهرجة والأشجار التي بدت وكأن نسمات الهواء تعزف لها فتتمايل وهى تمر أمامك.
نشط فى ذهنها للحظة تقرير قرأته لجريدة «التليجراف» البريطانية، عن العلاقة بين حب الفرد الجلوس بجانب النافذة وبين شخصيته، التى أكد فيها أحد الأطباء النفسيين أن الأشخاص الذين يفضلون الجلوس بجانب النافذة يميلون إلى حب السيطرة، كما يحبون العيش فى عالمهم دون تدخلات من أحد، وأن أكثر الأشخاص يفضلون هذا المقعد. لكنها لا تعلم مدى صحة هذه التقارير، بل إن الأمر لم يشغلها كثيرا ففى اعتقادها بأن مراقبة الأشجار والنجوم أكثر إثارة من الأحاديث. لكن أحيانا ما كان يصافح وجهها العربة من الداخل فترى وجوهًا عابسة، ربما حملت همومًا أكبر منها؛ فانطبعت على أجسادهم واختلست الضحكة من شفاههم، فكل الركاب كانوا واحدًا، لا يوجد ما يميز أحدهم عن الآخر سواء ملابسهم! 
تذكرت ما لفت انتباهها فى بداية الأمر، كانت تلك الفتاة الجالسة أمامها بعينها الهاربتين وذقنها المدببة، بدت ملامحها نقية وكأنها تحمل وجه طفلة بهيئة فتاة عشرينية، تمسك برواية خيالية وقد بدت فى أعلى قمم التركيز حين كانت مصوبة عياناها وأنفها كحد سيف داخل الأوراق لدرجة تقترب من فقدانها الوعى بمن حولها، فبدت وكأن الرواية أخذتها إلى عالم آخر لا يوجد به سواها، أو أن حلمًا ما قد صحى بداخلها! حتى إنها لم تنبه للصوت الجهورى الذى تردد لأكثر من مرة «أين التذاكر يا فتاة؟». وأما عن يسارها جلست سيدة نحيلة بجسد أكمش هزيلا ملأ وجهها خريطة من التجاعيد المنحوتة بدقة، كانت عاقدة كفيْها فوق عُكاز خشبى تحت ذقنها، هائمة كالجميع، لحظات وثمة ابتسامة هادئة ملأت وجهها، ليدرك المرء حينها أنها سافرت إلى ماضٍ ليس بقريب، إلى فرحتها الضائعة والحب الضال ورائحة الخبز بأفران الحطب، وكأنها اختزنت تلك الذكريات لتهرب بها من عالمها وقت الحاجة.
من المُلاحظ أن الصمت كان دائما يخيم داخل هذه الأماكن، وكأن المكان ووجوهه أكثر حكمة من أحاديثنا التافهة، بل إن أرواحنا فى حاجة للسفر من حين إلى آخر.
قد حل الليل وتلونت السماء باللون الأزرق القاتم حينما غادَرَت قطارها ولكن وجوههم لم تغادرها بعد!