خلال سنوات عملى فى بلاط صاحبة الجلالة لم أجد أسوأ من تلك الأيام التى تمر على أبناء هذه المهنة، فلا كرامة ولا جلالة ولا وزن لأصحاب «السلطة الرابعة» ليس فقط عند باقى السلطات بل عند العوام والهوام أيضًا.
حتى وقت قريب كان لأرباب القلم «شنة ورنة»، كانت الريشة لا تفارق رءوسهم، ولم لا فهم عين الشعب على مؤسسات الحكم، وهم أيضا «الترمومتر» الذى يقيس به الحاكم رضا الناس عن قراراته وسياساته.. للأسف وصل الأمر هذه الأيام إلى أن يتحول أصحاب الجلالة إلى «ملطشة» لكل من هب ودب، يخوض فيهم وفى أعراضهم وذممهم المالية «النطيحة والمتردية وما أكل السبع».
لن أقف كثيرًا عند ما جرى مع عدد من الصحفيين أمام نادى الزمالك قبل أسبوع، ولن أذكر بالمهانة التى طالتنا جميعًا أبناء هذه المهنة بعد التحرش بزميلة صحفية من أفراد أمن النادى أمام أعين المارة، فنقابة الصحفيين التى أشرف بالانتماء لها تبنت القضية، وهى كفيلة برد حقوق أبنائها، لكنى أردت أن أنعش ذاكرة القارئ الكريم بما كانت عليه الصحافة وقتما كانت «صاحبة جلالة» بحق تدافع عن المواطن وحقه فى المعرفة وتنقل له ما يدور فى كواليس السلطة ولا تقبل بغير حق القارئ بديلًا.
يكفى أن أذكركم ونفسى بما نقله الكاتب الكبير صبرى أبوالمجد عن زميله الكاتب الصحفى إبراهيم الوردانى فى كتاب «محمد التابعي»، لتعلموا كيف كنا وإلى ما وصلنا.
يقول الوردانى عندما كنت محررًا ناشئًا تحت رئاسة تحرير التابعى فى «آخر ساعة»، علم التابعى أن الرقيب تدخل وحذف ثلاث صفحات من مقالى، وكانت الرقابة فى ذلك الوقت متربطة بأجواء الحرب العالمية الثانية.
غضب التابعى وهاج وماج، واصطحب الوردانى معه فى سيارته إلى وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين، ويصف الوردانى اعتداد أستاذه بنفسه وتلامذته، ويقول: «ركبت بجوار الأستاذ ومعى البروفة فى سيارته الرولز رويس الباهرة الفاخرة، وطربوشه المائل على الحاجب يهتز من شدة ما هو منفعل وغاضب، مرقت السيارة من بوابة الداخلية والعساكر تعظيم سلام، والتابعى بارستقراطيته النفاذة يقتحم الأدوار والردهات والحجرات، والناس له ينحنون ويفسحون، ثم تندفع خطوات حذائه نحو مكتب مزدحم بأطقم من أفخر الرياش، شاب فائح الأناقة «مدير مكتب الوزير» يقفز مهرولًا منحنيًا للتابعى، وقبل أن يحاول الشاب الدخول، وهو يفتح الباب مواربًا على غرفة الوزير سبقته خطوات التابعى العصبية وهو يجرنى من ذراعى، وبركلة من حذائه دفع الباب ليُفتح على المصراعين، نعم فتح الباب بركلة من حذائه، ويا له من منظر لا أنساه، الباشا المرعب الذائع الصيت فؤاد سراج الدين وزير الداخلية والحاكم العسكرى والآمر الناهى فى كل بر مصر، منجعص خلف مكتب مطعَّم بالأبانوس والقطيفة الخضراء، والبللور الضاوى له بريق الذهب ورائحة البنكنوت الطازج، فى فمه سيجار وفى إصبعه خاتم له شكل الفانوس، يجلس أمامه كرشان فخمان، الباشا عثمان محرم والباشا عبدالمجيد صالح.
ويضيف الورداني: «هب الثلاثة الفخام العظام فى استقبال التابعى وأذرعهم تفرد نفسها لطويل العناق، لكن التابعى توقف فى منتصف الحجرة متجاهلا الأذرع الممدودة وانطلق مزمجرًا معنفًا مخيفًا بكلام خلاصته الرفت الفورى لهذا الرقيب الوقح، وأن يسمع الاعتذار من وزير الداخلية وفورًا».
ويصف الوردانى المشهد، قائلًا: «يا له من مشهد انزرع فى العين والباشاوات الفحول يهدئون الصحفى المنفعل الغضوب، يدللون ويسترضون بل يتزلفون، واهدأ يا محمد، روّق يا تابعى، نرفت لك الرقابة كلها يا سيدى بل تعتذر لك أجهزة الحكم كلها، كل هذا وأنا جالس على طرف المقعد منكمشًا مبهورًا ذاهلا، وريفيتى المفرطة لا تصدق أن يكون للقلم الصحفى مثل هذا السلطان، انزرع المشهد فى عينى ومشاعرى وعلى أسطر ضلوعى وكأنه التقييم الهائل لقيمة الصحفى فى بلاط الحكم والسلطان، يا إلهى كيف لا يتعامل الصحفيون والكُتّاب بمثل هذا الشمم وتلك الكبرياء، لم أسأل وقتها من أين هذا السلطان، ومن أعطاه، ولحساب من، إنه الشعب، هو وحده الذى يعطى مثل هذا السلطان»!
ونقل زميلنا محمد توفيق فى كتابه «الملك والكتابة» قصة أخرى عن كرامة الصحفى أيام الكرامة مفادها أن الصحفى أبوالخير نجيب، وكان محررًا فى «الأهرام» ذهب لمقابلة رئيس الوزراء إسماعيل صدقى، رئيس الوزراء الأشرس فى تاريخ مصر، ولما طال الانتظار وتجاوز ثلاثة أرباع الساعة، وكان ذلك فوق احتمال أبوالخير، ذهب إلى جريدة الأهرام ودخل مكتب رئيس التحرير أنطون الجميل باشا، وصمم على استقالته إذا لم يسمح له بالرد على إهانة رئيس الوزراء.
انعقد مجلس إدارة «الأهرام» وانتهى بعدم نشر أى شىء أو أى خبر أو أى صورة أو أى تعليق أو أى مقال عن إسماعيل صدقى، واستمر ذلك شهرًا كاملًا، ما أفقد رئيس الوزراء الصبر واضطره للذهاب لـ«الأهرام» ليعتذر لـ«أبوالخير نجيب».
كانت تلك صحافة زمان، أيام ما كان لـ«صاحبة الجلالة» سلطة وهيبة وكرامة، تستمدها من أنها كانت تقوم بدورها فى إخبار الشعب بما يجرى ويدور، ومواجهة السلطة أيام الملك والاحتلال بتعنتها أو فسادها أو استبدادها.