الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القاع النفسي للموت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعَدّ السؤال عن موت النفس، أو موت الجسم ممّا شغل الكثيرين حتى وقتنا الراهن، وطرح – منذ أمد بعيد – مناقشات جدلية زاد من حدتها الانقسام الفلسفى الحاد الذي سيطر على مسرح الحياة المعاصرة. هل يموت الجسم وحده، وتبقى النفس خالدة؟ أم أن الموت دمار شامل، يطحن طرفى هذه المعادلة فى سياق حدث كونى عام؟ ما نقاط الالتقاء والافتراق بين الفكر والمادة، بين الحياة والموت داخل الإنسان؟ هل النفس عالم خفى لا ينتمى إلى مكان معين، ولا يخضع لقانون محدد؟ أين تكمن النفس؟ وكيف تعمل؟ وما حقيقة علاقتها بهذا الجسم الذى تسكن فيه؟ 
شهدت الحضارة الحديثة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، ظهور عدد من مدارس علم النفس؛ لعبت أدوارًا متكاملة متعددة الجوانب فى تحليل الظواهر النفسية، وانصبت كل هذه الجهود لاكتشاف الضوابط الأساسية للفكر والسلوك الإنسانى على حد سواء. وهذا الجهد السيكولوجي، الذى بدأ مع «أرسطو» لم يأخذ مجراه العلمى الدقيق، إلا حين ظهر علم النفس لأول مرة كعلم مستقل. ومنذ ذلك الحين، بدأت الدراسات التجريبية حول هذه الفاعلية الدينامية للإنسان، وتنوعت الجهود وتعددت وأدت – فيما بعد – لظهور المدارس السيكولوجية الكبرى التى ما تزال بصماتها، تلون حياتنا النفسية بكثير من الفاعلية والتأثير.
هذا الولوج العلمي، داخل الإنسان، أثار معادلة الحياة والموت من جديد. فكيف تتجلى الحياة فى شعورنا؟ وكيف تتضح رموز الموت فى ساحة لا شعورنا العميق المظلم؟ لقد مثل الموت، دائمًا، حالة تصدع نفسى مستمر، دفع الإنسان للبحث عن سلام عقلي؛ يحاول الإمساك به وسط دوامة الانهيار الدائم. فمهمة الإنسان – كانت وما زالت – إيجاد نوع من المرتكزات العقلية تساهم فى جعل الموت مسألة مفهومة على نحو ما.
والسؤال عن النفس كان من التساؤلات التى شغلت الإنسان فى محاولة تفسيره لظاهرة الموت؛ فكيف ينعكس الموت داخل النفس؟ وكيف يتجلى؟ هل هناك فرق بين وعى الموت بشكله الموضوعي، ووعى الموت الداخلى الذاتي؟ لا شك أن هذه التساؤلات قد لعبت دورًا رئيسًا، أدى لانتقال البحث من أفق النظرة الميتافيزيقية للنفس، إلى مستوى التحليلات العلمية الموضوعية، التى حددت نظرتها إلى الإنسان. وقد توصلت الجهود العلمية لرصد ظاهرة الموت، وهى وإن أخذت صيغة شاملة لحقائق الوجود – فى الكيمياء العضوية والبيولوجيا – فقد انصبت فى مجال علم النفس على الظواهر السيكوفيزيقية (أى الظواهر النفسية التى تتبدى على نحو تجريبي) فى محاولة لاستبطان بنية العالم الداخلى للإنسان. وهذا الأمر أدى لانتقال البحث من مستوى السؤال عن ماهية النفس، إلى مستوى تحليل قواها الفاعلة، ومعرفة وظائفها الأساسية. فهل تلعب هذه الدينامية أدوارًا خاصة عند الحدود الفاصلة بين الحياة والموت؟
إننا بالتأكيد حين نقف أمام لحظة الموت، يفاجئنا هذا الانقسام النفسى الخاص؛ حين ندرك تمامًا أن فى أعماقنا شيئًا ما لم يمت بعد، وأن فى أعماقنا شيئًا ما قد مات بالفعل. هذا الوعى بالتمايز القائم بين الشعور واللاشعور ساهم – بشكل فعال – فى خلق دينامية الحياة النفسية. فالشعور، وهو الحياة فى صيغة حاضر دائم، يقودنا عبر العالم فى محاولة مستمرة لتأكيد وجوده؛ وهو تأكيد ينطوى على محاولة تود استيعاب اللانهائى فى النهائي. هذا التناقض يتحول إلى جهد يخرج عن نطاق السيطرة العقلية المباشرة، وتتولاه آلية نفسية لا شعورية توضح أن الحياة باقية فينا، أو أنها لا بد وأن تدب فينا مرة أخرى.
هذه الفاعلية اللاشعورية – وهى قوة غامضة أصيلة وعميقة داخل النفس – ترتكز فى تكوينها على أنماط أولية كامنة وسابقة على أى مقياس علمى موضوعي؛ وهى تستمد غذاءها وقوتها من غريزة حب البقاء، وغريزة الموت. لذلك تبدو فكرة الموت، وحتى ما بعد الموت، حلمًا دائمًا يكمن فى اللاشعور؛ وبقاؤه فى أعماق التكوين النفسى واستمراره، إنما يعود لزمن دائرى يشكل نسيجه الخاص. من هنا ظل الشعور دائمًا ممثلًا للحياة، فى حضورها المباشر الحي، بينما توارى الموت فى ساحة اللاشعور؛ حيث تعقد محكمة ذاتية دائمة هى التى تقرر فى النهاية، ما نريده أن يظل خالدًا فى أعماقنا حتى اللحظة الأخيرة، ولكن إذا كان الشعور هو الحياة فى حضورها الدائم، فهل يعتبر اللاشعور بمثابة القاع النفسى للموت. 
كشفت لنا الدراسات السيكولوجية عن أن الشعور هو مجموعة من الوقائع تؤلف فيما بينها مجالًا نفسيًا محددًا، وهذه الوقائع عبارة عن مكونات مستقلة وموضوعية؛ لكنها تشكل فى مجموع تآلفها عالم الشعور. لكن هذا المفهوم التقليدى للشعور، تعرض للنقد على يد «المدرسة الظاهرياتية» التى قادها «هوسرل» وكان لها تأثير كبير فى مجال الفلسفة وعلم النفس.
يرى «هوسرل» أن علم النفس ينطوى بالضرورة، على تشويه أو سوء فهم لحقيقة الوعى أو «الشعور». وآية ذلك أن عالم النفس حين يأخذ بالموقف الطبيعي، فإن الإنسان الذى يدرسه إنما هو الإنسان من حيث هو جزء من العالم. وحينما يتحدث عن الشعور، فإن رتبة الوجود التى ينسبها إلى الشعور لا تختلف اختلافًا جذريًا عن رتبة الوجود التى ننسبها – فى العادة – إلى الأشياء. والشعور – فى نظر عالم النفس (وكما رأى د/ زكريا إبراهيم) – موضوع لا بد من دراسته، وهو حين يحاول دراسة هذا الموضوع فإنه لا يراه فى وسط غيره من الموضوعات، أعنى لا ينظر إلى الشعور إلا بوصفه حدثًا فى النظام العام للعالم. أما الشعور فى نظر «هوسرل»، فإنه هيهات لنا أن نصل إلى تصور صحيح له، اللهم إلا إذا عمدنا إلى القيام بتحليل من نوع آخر نستطيع عن طريقه أن نكتشف فى صميم خبرتنا ماهية الحياة النفسية، أو معنى الشعور بصفة عامة. فليس فى استطاعتنا أن نعرف – على وجه التحديد – ما هو الشعور، إلا إذا استشعرنا فى أعماق ذواتنا معناه الباطن؛ بحيث نتمكن عن هذا الطريق من الحصول على «حدس ذهني» عن هذا الشعور نفسه. معنى هذا، أن الشعور ليس موضوعًا يقبل الملاحظة أو المشاهدة الخارجية، بل هو حقيقة نفسية تستلزم ضربًا من «التحليل القصدي». 
وإذا اعتبرنا أن اللاشعور هو القاع النفسى للموت، فإن مذهب الظاهريات أنكر وجوده، وأصبحت الحياة النفسية ليس أكثر من حركة دينامية، يلتقى خلالها ما هو موجود فى العالم الخارجي، مع نقطة ارتكاز ماهيته داخل الشعور. وإذا كانت الحياة، بصفتها حضورًا مباشرًا فى الشعور، تمثل تفاعلًا بينى وبين العالم الخارجي؛ فإن الموت – حضور غير مباشر فى ساحة اللاشعور – يمثل تفاعلًا بينى وبين العالم الداخلي الخاص. وكما يأخذ الوجود قيمته من خلال ماهية كامنة فى الشعور، كذلك يأخذ الموت قيمته من خلال ماهية كامنة في اللاشعور. هذا يعنى، أن الحياة النفسية تنطوى على شعور هو منطلق الوعي بالحياة، وعلى شيء نفسى آخر هو منطلق الوعي بالموت. وهذا الحيز النفسى العميق هو عالم اللاشعور.