الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العالم في مفترق الخرائط

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تستوقفك دائمًا الخرائط التى ترسم بشكل غير رسمي، بشكل يوحى بالمخطوطات القديمة؛ بالأطراس التى هى وثائق عتيقة تتراتب فوقها الكتابات فلا تعرف الأصل مما هو زيادة، ولا تعرف المتن من التعليق اللاحق، ثم تتداخل الصور والرسوم والحروف والأشكال، فيصبح النص النهائى شيئا جديدا لا نعرف له صلة واضحة بالأصل.
بعض الخرائط فجّر حروبا، بعضها - فى دوائر أقل اتساعا - فجّر صراعات مميتة... 
من الذى يرسم الخريطة؟ من هو أول شخص يفكر فى رسم خريطة للمكان؟ ما سلطة المهيمن على رسم الخريطة إزاء باقى سكان المكان وسكان العالم؟ 
والسؤال الأكثر إلحاحا هو: ما الذى تغير اليوم وقد تحول تصميم الخرائط إلى علم قائم بذاته؟
تنويعات
لأول وهلة، قد يجيبنا حول مسألة علم الخرائط هذه فلاسفة من شهود إحدى الحربين الكونيتين أو كلتيهما؛ من منطلق أن الحروب غالبا ما تغير خرائط العالم والأقاليم تحضيرا لتغيير خريطة الحياة برمتها. من إحدى ربوات الفلسفة التى تطل على الحرب الكونية الثانية، يقول بول فيرابند: «لقد تحول العلم إلى تجارة عملاقة لا تهتم كثيرا بالبحث عن الحقيقة». وقبله بكثير، ومن على ربوة فلسفية مماثلة كان برتراند راسل قد قال: «إن عصرنا هو عصر غالبًا ما يُحلُّ السلطة مَحلَّ المثل الإنسانية القديمة».
فى سياق مواز لهذا، يقول مختص كبير هو الجغرافى الفرنسى جاك ليفي: «أعتقد أن رسم الخرائط الغربية استغرق حوالى ألف سنة للحاق بالتخطيط العربي. إن العصر الذهبى لمدرسة رسم الخرائط العربية هو حوالى عام ألف ميلادية. وكانوا فى ذلك الوقت، فى القطب الإسلامى العربى الفارسي، المرتبط بالخلافة العباسية، يتمثلون العالم كنظام من الشبكات: نجد خرائط منمقة جدًا تركز على النقاط والخطوط المرتبطة؛ أمر أدركه رسامو الخرائط العرب، وكان على الأوروبيين أن يأخذوا وقتًا أطول فى فهمه: فالخريطة هى فى المقام الأول صورة مركبة تقدم المعلومات الأساسية للوهلة الأولى. وهذه المعلومات ليست مجرد سطح أو موقع».
ما أصل خريطة العالم؟
لقد وقف العالم متعجبا حينما اكتشف خريطة جزر الماوري، خريطة تمثل العالم الذى يدور حول جزيرتهم الرئيسية، فهى مركز العالم والباقى كله مجرد حواش وبقاع تتباعد عن بلادهم بمسافات متباعدة دون أن تكون محددة بوضوح.
يستدعى هذا التصور ضرورة تأمل مرحلة الانتقال من الوعى بالعالم كما هو عند الماورى إلى الوعى بالإقليم، الذى هو وعى مزدوج يحيل حينا على فكرة التعدد لأن العالم أقاليم متجاورة فى تماسات حرجة، تحتاج أحيانا إلى تدابير كبيرة لضمان سلامتها واستمراريتها، ويحيل أيضا على فكرة الاستعمار الذى هو مرض يصيب الحدود بين الأقاليم.
منذ سنوات ظهرت على غلاف مجلة The Economist خريطة رسمها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، تمثل تصورا للعالم يعيد ترتيب الانتماءات الجغرافية وفقا للمبادئ التى اعتمدها الرئيس الروسى لتبرير تدخل بلاده فى أوكرانيا. والنتيجة هى خريطة للكرة الأرضية فيها تقسيم جديد يرتكز على التاريخ والعقائد والصلات الثقافية المتوارثة. فبلجيكا وفرنسا وحوالى ١٥ دولة أفريقية هى جزء من الفرنكفونية. فيما الدول الأفريقية الأخرى، أستراليا وكندا والولايات المتحدة تشكل الإمبراطورية الإنجليزية. وتتكون الجزيرة العربية من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ومعظم أمريكا الجنوبية تصبح إسبانيا الجديدة (باستثناء البرازيل، التى تشمل البرتغال الكبير)، ومن الآن فصاعدًا - فى تصور بوتين - لن نتحدث عن الدول الإسكندنافية ولكن من «فيكنغسلاند». المحللون قرأوا نشر بوتين لهذه الخريطة على موقعه الخاص - وعنه نقلت الخريطة مجلة «ذى إيكونوميست» - بأن الرئيس يبرر تدخل روسيا فى أوكرانيا بقوله إن بلاده ملزمة بحماية الناطقين بالروسية فى كل مكان فى العالم. يزيل الاقتصاديون النظام العالمى القائم على أساس هذا البيان ويعيد رسم العالم حسب تصور ليس اقتصاديا، كما نحن متعودين عليه منذ نشأة الاتحاد الأوروبي.
فى عام ٢٠١٧، وفى العدد السنوى للمجلة نفسها يعيد المسئولون عن المجلة (التابعة لعائلة روتشيلد) رسم خريطة العالم بشكل أكثر فجائعية، إذ تظهر على الغلاف خريطة للسماء (الأخت الكبرى للأرض) عليها تشكيلة من أوراق التنجيم داكنة اللون تمثل الوضع السياسى المالى والاقتصادى للعالم، مع إشارات عارية إلى تحكم البنوك فى الأرض، إلى فوضى الحكام الذين يعجزون عن رسم السياسات الداخلية لبلدانهم بسبب هيمنة الاوليغارشيا العالمية، إلى نهاية الكنيسة وهيمنة اللعب والقمار على اللعبة السياسية، مع الإصرار على صورة كاريكاتورية للرئيس الأمريكى الحالى على أساس كونه أتى لمعاقبة كل من يخرج عن الصف، ويرغب فى التغريد خارج السرب العالمى الموحد. للسائل الذى يتذكر أن كلمة carte تعنى «الخريطة» وكذلك «ورق اللعب»، أن يتساءل عن المغزى العميق لغلاف مجلة بهذه الأهمية تحمل بطاقات ذات رموز كاريكاتورية الغالب أنها تحتفظ من عالم الكاريكاتور بالبعد الدلالى القوي، مع التضحية التامة بالبعد التهكمى أو البعد الساخر للكاريكاتور.
لنا أن نتساءل: هل هى توقعات من نوع ما تحمله قصص الخيال العلمي؟ أم أنها رسائل إنذار ووعيد واضحة لمن يعنيهم الأمر؟
نميل فى غضون هذه السطور إلى الإمكانية الثانية، فالغالب أنها القراءة الثانية، وتدعم ذلك طبيعة المنبر الذى حمل الرسالة: المجلة وأصحابها وموقعهم من الخريطة الاقتصادية (أي: السياسية) للعالم، ولنا أن نتذكر ما قاله ذات يوم عميد مصرفيى الكرة الأرضية، التى تتغير خرائطها ولا تتغير حقائقها «مايير آمشل روتشيلد»: «إذا تمكنتُ من السيطرة على أموال أمة ما، فلن آبه بمن يضع قوانينها». ويمكننا أن نستحضر مقولة حفيده ذى النفوذ العظيم البارون ناثن مايير روتشيلد: «لا أعبأ أبدا بالدمية التى تسير مملكة إنجلترا، فالرجل الذى يهيمن على الكتلة النقدية هو الرجل الذى يهيمن فعلا على الإمبراطورية البريطانية، وذلك الرجل هو أنا».
مجمل القول
فى كثير من الأحيان، عُدت الخريطة أداة للتوجيه والملاحة، فهى تعمل على طمأنتنا فى قراءتنا للمنطقة. ولكن ماذا سيحدث لو سافرنا بخرائط مزعجة لا نرتاح إليها؟ خرائط تحتاج تأويلا عميقا؟ البطاقات التى تحظى باهتمامنا هنا فى هذا المقام/المقال هى بالتحديد تلك التى تحارب طغيان الوضوح لجرنا إلى الأعماق المجنونة لهذه الخطوط والأشكال غير المؤكدة. هذه البطاقات التى تبدو دون ذاكرة تيسر المؤامرات وترفض اتباع البوصلة. إنها تقودنا إلى مناطق جغرافية غير محتملة وغير معروفة. توفر لنا الخرائط غير المؤكدة الفرصة للسير بلا حراك داخل الحركة، كما لو كانت تخبرنا بأن نقاط التثبيت التى توجهها الهندسة المكانية هى فى المقام الأول نقاط خيالية تخترعها هندسة تأويلية. ولكن التأويل سلاح ذو حدين، والتأويليون من فيلهلم ديلطاى إلى ميشال فوكو، يؤكدون أن التأويل مسألة فعل وعمل وتدخل فى العالم، وليس مسألة فهم عالق فى الذهن أو قابع فى الكتب.
من هنا تصير أوراق الخرائط بيضاء مع كل مساء، حينما تغلق سوق البورصة؛ لأن الرسم سيختلف كثيرا فى اليوم الموالي، ورسامو الخرائط فى العالم الجديد هم عملاء المضاربة، وهؤلاء ناصيتهم بأيدى مديرى البنوك والمؤسسات المالية وإليهم تنتهى الدائرة التأويلية.