الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

سينما عبد الرحمن الشرقاوي.. أديب النضال العربي

عبدالرحمن الشرقاوى.. أديب النضال العربى

عبد الرحمن الشرقاوي
عبد الرحمن الشرقاوي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان الراحل عبدالرحمن الشرقاوى مُبدعًا من طراز فريد، فقد كان شاعرًا وأديبًا وكاتبًا وصحفيًا ومؤلفًا مسرحيًا ومفكرًا إسلاميًا يندر الزمان أن يجود بمثله. وصفه الناقد الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، بأنه «شاعر الفلاحين ومؤرخ الأنبياء».
عرفه البعض صاحبا للفضائل الأدبية التى شُكلت من الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى المسرح الشعري، ثم الغوص فى بحور التاريخ الإسلامي؛ وشهد تاريخه العديد من الإسهامات الكبيرة فى الحياة الثقافية التى امتازت، رغم تنوعها، بالإخلاص والأصالة والجدة فى تعبير عن العواطف والحقائق، وسخرها فى الدفاع عن الحق والحقيقة وعن الإنسان والشخصية المصرية.
وجاءت سينما عبدالرحمن الشرقاوى لتُحوّل كلماته إلى صورة حيّة تخطف عقول ومشاعر المُتفرجين، سواء كان العمل كاملًا من كتابته مثل رائعته «الأرض»، أو مأخوذا عن واحدة من روائعه مثل «جميلة»؛ أو حتى كان مجرد مشارك فى صناعة عمل ضخم مثلما شارك فى سيناريو فيلم «الرسالة»، لتتسم سينما الشرقاوى بامتداداتها التاريخية دومًا بالانحياز للبسطاء والمقهورين فى أرجاء الأرض، من أبوسويلم الفلاح الذى أغرقت دماؤه أرضه وهو يرفض التخلى عنها، إلى جميلة الفتاة الثائرة التى تبذل روحها من أجل استقلال وطنها، وحتى المسلمين الذى عانوا أقسى لحظات الضعف والهزيمة أمام عُتاة العرب حتى تحقق النصر لدعوة نبيهم العظيم. ليظل الإنسان البسيط والحقيقى فى الوقت ذاته هو البطل إلى الأبد فى حكايات الشرقاوى التى استمرت رغم رحيله.

فيلم الأرض.. معنى "وقفة الرجالة"

كأى فلاح مصرى أصيل عُرف عبدالرحمن الشرقاوى بانحيازه لطبقة البسطاء من أهل القرى سواء أصحاب الأراضى القليلة التى لا تتجاوز بضعة قراريط أو أولئك العاملين عليها بالأجرة اليومية. لم ينتظر الرجل قبل أن يُعلن ولاءه للطين الذى يحمل الخير كله، بل وأبرز ذلك فى أول أعماله الروائية «الأرض» التى صدرت عام ١٩٥٤، والتى تعد أبرز إبداعاته الأدبية، فى تجسيد الواقع، والتى أضافت كثيرًا إلى الرواية العربية، واعتبرها العديد من النقاد النموذج الأبرز لمذهب الواقعية الاشتراكية.
تحولت الرواية إلى عمل سينمائى عام ١٩٧٠، من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما وإخراج العبقرى الراحل يوسف شاهين، وبطولة كوكبة من النجوم والفنانين الكبار، أمثال محمود المليجي، وعزت العلايلي، وتوفيق الدقن، نجوى إبراهيم وغيرهم؛ رغم أن المليجى كان قد قرر عدم خوض التمثيل مرة أخرى بعد سقوط فيلم فاطمة رشدى «الزواج على الطريقة الحديثة» من بطولة سعاد حسنى وحسن يوسف، إلا أن شاهين أعاده مرة أخرى؛ ليُحقق الفيلم - الذى كان موعد عرضه الأول فى ١٠ يوليو من العام نفسه - نجاحًا ساحقًا استمر لعقود، حتى أنه فى احتفالية مئوية السينما المصرية عام ١٩٩٦ تم تصنيفه فى المركز الثانى ضمن أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية فى استفتاء النقاد.
جاءت أهمية الفيلم فى الرؤية الفكرية التى يحملها، والرسائل العديدة التى استطاع توصيلها إلى جمهوره، فهو يدعو إلى التمسك بالأرض والثورة والدفاع عن المبادئ والانتماء؛ ورغم أن الفيلم يحكى عن نضال الفلاحين المصريين ضد الإقطاعيين إلا أنه يحمل العديد من المضامين والإسقاطات على واقعنا الحاضر. تدور أحداث الفيلم فى إحدى القرى المصرية فى عام ١٩٣٣، والتى يفاجأ أهلها بقرار حكومى بتقليل نوبة الرى إلى خمسة أيام فقط بدلًا من عشرة، فيبلغ العمدة الفلاحين أن نوبة الرى أصبحت مناصفة مع أراضى محمود بك الإقطاعي، والذى يستولى بدوره على أراضيهم؛ يجتمع رجال القرية للتشاور ويتفقون على تقديم عريضة للحكومة من خلال محمد أفندى ومحمود بك، لكنه يستغل الموقف وتوقيعاتهم لينشئ طريقا لسرايته من خلال أرضهم الزراعية.
هكذا يثور الفلاحون دفاعًا عن أرضهم بقيادة المُناضل القديم محمد أبوسويلم الذى شارك فى ثورة ١٩١٩، ويلقون الحديد فى المياه، فترسل الحكومة قوات الهجانة للسيطرة على القرية، ويتم انتزاع الأراضى منهم بالقوة وكذلك يتم إعلان حظر التجوال، ويتصدى محمد أبوسويلم للأمن؛ ليسحل على الأرض، وهو يحاول التشبث بالجذور، فى المشهد الشهير، والذى لايزال عالقا بأذهان كافة من شاهدوا الفيلم.


«جميلة».. أروع مُناضلات العرب

«يا قوم لا داعى للاستمرار فى تمثيل تلك المهزلة، إنى لأعرف أنه الإعدام تحت المقصلة، لكنكم لن تقتلوا إلا فتاة، ستلطخون بلادكم بدمائها أبد الحياة، أما الجزائر فهى تمضى فى الطريق لتنتصر، وستنتصر، سنظل نقتحم الخطر وسننتصر، وسيشرق الفجر الجديد من الدم».
يرى البعض أن نص عبدالرحمن الشرقاوى المسرحى «مأساة جميلة» هو العمل الأبرز طيلة مسيرته الأدبية، والذى جسّد قصة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وكفاحها ضد الاحتلال الفرنسي. العمل الذى رآه البعض تسليطًا للضوء على مأساة عشرات الآلاف من ثوار الجزائر الذين بذلوا أرواحهم حتى نالوا الاستقلال، تم تحويله عام ١٩٥٨ إلى فيلم أسطوري، تعاون فيه الشرقاوى مع كبار الكتاب لوضع السيناريو التنفيذى له، وعلى رأسهم العالمى نجيب محفوظ، والكبار يوسف السباعي، وعلى الزرقاني، وغيرهم، والذى كان نص الشرقاوى المسرحى فيه هو المرجعية لكل الأحداث، وحوارات شخصيات العمل.
الفيلم كان من بطولة وإنتاج الفنانة ماجدة، وشاركها البطولة الفنانون رشدى أباظة، أحمد مظهر، وزهرة العلا، صلاح ذو الفقار، كريمان، وهو أيضًا من إخراج يوسف شاهين. فيما بعد كشفت المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد نفسها عن أن الفيلم تم عمله دون موافقتها، وقالت «فى الوقت الذى كان فريق العمل يصور فيلمًا عن حياتى كنت أنا فى الزنزانة أنتظر الجلاد لتنفيذ حكم الإعدام»؛ وأضافت أنها لم تلتق المخرج يوسف شاهين وأنها لم تشاهد الفيلم الذى يحكى مسيرتها إبان الثورة التحريرية الجزائرية كاملا ما عدا بعض المقاطع.
يحكى الفيلم عن الفتاة الجزائرية «جميلة» التى تعيش مع شقيقها الهادى وعمها مصطفى فى حى القصبة أثناء الاحتلال الفرنسى للجزائر. تشاهد الفتاة يوميًا مدى الظلم والجبروت والقسوة الذى يتعامل به جنود الاحتلال الفرنسيين مع أبناء وطنها، وتستيقظ روحها الوطنية عندما ترى تعذيب ومقتل زميلتها أمينة بالمدرسة والتى كانت ضمن منظمة لمقاومة الاحتلال؛ هكذا تنضم الفتاة الصغيرة إلى الفدائى يوسف وتقرر هى أيضًا مقاومة الاحتلال مع الفدائيين وتقوم مع زميلتها بوعزة بعملية فدائية يتم فيها القبض على بوغزة، ثم يتم قتل عمها أيضًا رميًا بالرصاص.
تستمر جميلة فى عملياتها الفدائية، ولكن من خلال إحدى تلك العمليات يتم القبض عليها، ويقومون بتعذيبها بشدة على يد الكولونيل بيجار من أجل أن تعترف على أسماء جميع الفدائيين الذين يعملون معها، وتقاوم جميلة شتى أنواع التعذيب، ويتطوع المحامى الفرنسى جاك فيرجيس للدفاع عنها، ولكن تحكم المحكمة عليها بالإعدام، وينتهى الفيلم على هذا الحكم الذى كان آخر ما تابعه صُنّاع الفيلم؛ ولكن جميلة فى الواقع يتم تبرئتها بعد ذلك وبلادها حصلت على الاستقلال.
مع مرور السنوات تنكشف حكايات أخرى عن العمل، فخلال تصوير الفيلم حضرت إلى القاهرة المناضلة زليخة، رفيقة كفاح جميلة وروت مواقف من بطولات مجهولة لصديقتها؛ وداخل حى «القصبة» الذى شيدته ماجدة للتصوير وتكلف عشرة آلاف جنيه، وهو مبلغ ضخم فى ذلك الوقت حكت زليخة عن أحد أصعب المواقف التى عاشتها جميلة عندما خرجت مع رفيقاتها فى مهمة لتفجير قنبلة فى صفوف الفرنسيين، وكان من المقرر أن يركبنّ الترام، وفى المحطات التالية، زميلات جميلة يتسللنّ ويتركنها مع القنبلة الزمنية الموضوعة داخل حقيبتها؛ وقبل ٥ دقائق على انفجار القنبلة لمحتها سيدة فرنسية وتقدمت منها بعصبية وسألتها «ماذا تحملين فى الحقيبة؟»، فأجابتها بهدوء «حقيبة سيدة، ماذا يمكن أن يُحمل فى حقيبة سيدة؟»، فقالت لها «كلا أنت تحملين قنبلة»، وردت جميلة «سيدتى اتهامك باطل» كانت تجيبها بينما الأفكار تدور فى رأسها بسرعة هائلة وقد بقى أقل من دقيقتين على الانفجار ورغم مرور المدة لم تنفجر القنبلة.


«الرسالة».. السيناريو الأضخم فى الأفلام الدينية

فى الفيلم الأشهر فى العالم عن الدين الإسلامي، كان للكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى فرصة الاشتراك مع نخبة من الكتاب المصريين والأجانب، فى كتابة سيناريو فيلم «الرسالة»، وعلى رأسهم الكاتب الهولندى هارى كريج، والأمريكى هارى كيجاف، وتوفيق الحكيم، وعبدالحميد جودة السحار، ومحمد على ماهر، ليصنعوا معًا رائعة من روائع الأفلام التى تناولت عصر النبى محمد.
بلغت تكلفة إنتاج الفيلم بنسخته العربية والإنجليزية حوالى ١٧ مليون دولار، وحققت النسخة الإنجليزية وحدها عشرة أضعاف هذا المبلغ، وترجم الفيلم إلى ١٢ لغة ووزع فى العالم أجمع وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى فى عام ١٩٧٨؛ ويتناول فترة صدر الإسلام فى مكة، وهجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، مسلطًا الضوء على حياة عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب، وغزوتى بدر وأحد.
كان القلق الأعظم لدى المخرج السورى مصطفى العقاد، مخرج الفيلم، هو عدم إجازته من قِبل المؤسسات الدينية، لكن اطلع الأزهر على السيناريو وعرف أن نصه يحترم الرواية المشهورة للسيرة النبوية وملتزم بالوقائع التاريخية كما وردت فى الكتب الصحاح، وأيضا بعد أن عُرف أن شخص الرسول الكريم والعشرة المبشرين بالجنة لن يظهروا على الشاشة لا شخصًا ولا ظلًا ولا خيالًا ولا صوتًا، أبدى موافقته على السيناريو ووضع ختمه عليه، وهى الموافقة التى تلتها موافقة أخرى من قِبل المجلس الإسلامى الشيعى الأعلى فى لبنان.
تم اختيار المغرب ليكون مكان التصوير، وتحديدًا فى إحدى ضواحى مدينة مراكش التى تجمع بين مظاهر الحياة الصحراوية فى الجزيرة العربية وبين عمران مكة والمدينة، إضافة إلى بعض الواحات الصغيرة؛ وكان يتم تصوير النسختين، العربية بممثلين عرب والإنجليزية بممثلين أجانب مع الاحتفاظ بالديكور نفسه والممثلين الثانويين والمجاميع؛ واشتهر فيه دور حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول، والذى مثّله كل من الفنان المصرى عبدالله غيث والأمريكى من أصل مكسيكى أنطونى كوين؛ أما البطولة النسائية فاشتهرت فيها الممثلة السورية منى واصف فى دور هند بنت عتبة، وأدت الممثلة العالمية أيرين باباس الدور فى النسخة العالمية.
وكان ملك المغرب الحسن الثانى مُتحمسًا بشدة تجاه العمل الضخم، حيث أعطى تعليماته للمسئولين كى يزيلوا العقبات أمام سير عملية التصوير والإقامة، ووجه دعوة إلى كل الممثلين المغاربة تقريبًا كى يلتحقوا بمراكش ويعرضوا أنفسهم على المخرج حتى يساهموا فى الفيلم، ما يفسر ظهور عدد كبير من المغاربة فى الفيلم ولو فى أدوار رمزية أو ظهورهم فى مقدمة المجاميع؛ لكن بعد ستة أشهر من التصوير، اضطر المغرب لوقف ترخيص التصوير بسبب ضغوط من السعودية، فاضطر فريق عمل الفيلم إلى الذهاب للصحراء الليبية لتكملة التصوير، وبالفعل أُكمل الفيلم فى الصحراء الجنوبية، والبقية كانت بضواحى العاصمة طرابلس، ما يفسر أيضا الظهور المكثف للممثلين الليبيين فى الفيلم، كعبدالفتاح الوسيع فى دور عبادة، ومحمد الساحلى فى دور التاجر المرابي، وعيسى عبدالحفيظ الذى دل كفار قريش على مسلك الرسول عند هجرته، وعمران المدينى فى دور سهيل بن عمرو، لكن أهم الأدوار كانت لعلى سالم فى دور بلال بن رباح وسالم قدورة فى دور وحشي.

«الشوارع الخلفية».. تفاصيل الصورة والحكاية

من ضمن روايات الشرقاوى التى تم تحويلها لأعمال درامية، كانت رواية «الشوارع الخلفية»، والتى تحولت لفيلم ثم مسلسل تليفزيونى مؤخرًا، وكلاهما يحمل نفس الاسم. الفيلم بطولة ماجدة الخطيب، ونور الشريف، وسناء جميل، محمد توفيق، وراوية عاشور، رجاء حسين، أشرف عبدالغفور، وغيرهم، ومن سيناريو وحوار عبدالمجيد أبوزيد، ومن إخراج كمال عطية.
تدور الأحداث فى أحد الأحياء الشعبية بين عامى ١٩٣٥ و١٩٣٦، حيث يعيش ضابط جيش يدعى شكرى عبدالعال، أحيل إلى الاستيداع بسبب رفضه إطلاق النار على مظاهرات الطلبة، ومعه ابنته دريه وسميرة التى تغار من سعاد هانم بسب ميلها الواضح إلى أبيها. هناك أيضًا سعد الذى يعانى من تدليل أمه عديلة هانم له رغم اعتراض أبيه داود أفندى المتكرر، يشترك سعد مع عدد من زملائه فى الدراسة منهم شوقى وعطا الله وشوكت فى نشاط سياسى ضد المحتل الإنجليزي، ولا يوافق الدكتور عبدالعزيز أخو شوقى على هذا النشاط ويهدد بإبلاغ والده بالأمر، مما يؤدى إلى حرمانه من التعليم.
تنشأ قصة حب بين عبدالعزيز ورجاء الفتاة الفقيرة التى تكتسب عيشها من الرقص فى الأفراح، والتى ينتهى بها المطاف إلى الإصابة بالسل؛ ثم يعرض على شكرى العودة إلى العمل بالجيش، فيوافق بشرط عدم الاشتراك فى إطلاق النار على المتظاهرين من الطلبة، ولكن عندما يقوم سعد وزملاؤه بمظاهرة كبيرة للمطالبة بالاستقلال، تصدر الأوامر إلى شكرى بإطلاق النار، إلا أنه يرفض، مرددًا «تحيا مصر» بينما ينهال الرصاص على الطلبة.
كانت أغلب الأفلام المأخوذة عن نصوص أدبية فى ذلك الوقت تُظهر إما انحياز الشكل الفنى للعمل الأدبى بقوة، أو الاختلاف عنه. أما معادلة الجمع بين الاتجاه الفكرى للأديب واجتهاد الفنان السينمائى فقد تحققت فى الفيلم، حيث وجدت العلاقة بين المفردات المرئية فى النص الأدبى لرواية الشرقاوى ونظيراتها من مفردات مرئية فى الفيلم السينمائي، فالنص زاخر بوصف المرئيات التى أفاد منها المخرج، وربما طبقها حرفيًا فى كثير من المشاهد.