الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود صلاح يكتب: يوم مات الأستاذ!

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة!

بدأت رحلة النهاية فى صباح يوم 16 يوليو 2006، عندما تعثر الأستاذ وهو يمشى داخل حجرة نومه، ووقع على الأرض، وأصيب بجرح غائر فى مؤخر رأسه

التقيت «نجيب محفوظ» لأول مرة فى «ريش».. و«عم فلفل» أشار لى على الترابيزة الخاصة بالأديب أديب الحرافيش فى الثامنة صباحًا إلى المقهى لاحتساء القهوة.. قبل أن يتوجه إلى "الأهرام"


كان محمد سلماوى يزوره كل يوم سبت فى موعد لا يتأخر ولا يتأجل.. وهى الزيارة التى كان نجيب محفوظ ينتظرها بشغف كل أسبوع.. وفيها يعرض عليه سلماوى رسائل القراء

رأيت نجيب محفوظ أول ما رأيته على مقهى «ريش» الشهير فى قلب القاهرة فى منتصف السبعينيات، كنت أتردد على المقهى بين الحين والآخر، وأنا لم أزل بعد طالبًا فى الجامعة، بعد أن ربطنى إليه سحره الخاص، وعلمى أنه أبدًا لم يكن مثله مثل كثير من مقاهى القاهرة، بل هو منتدى وملاذ المثقفين والفنانين.. وسجل قديم لتاريخ مصر الثقافى والسياسى الحديث..

أيامها أشار لى «عم فلفل» أقدم جرسونات ريش إلى طاولة على الرصيف، وأخبرنى بكل إجلال «هذه ترابيزة الأستاذ نجيب»..

وسألت وعرفت أنه يأتى بانضباط فى الثامنة كل صباح، يجلس إلى طاولته، يطالع جرائد الصباح ويحتسى رشفات من فنجان قهوة، ثم ينطلق مشيًا على قدميه إلى مبنى «الأهرام» حيث مكتبه..

حرصت على أن أحضر قبل موعده اليومى، لكنى أبدًا لم أجرؤ على الجلوس إلى الطاولة المجاورة، لم أكن جمال الغيطانى أو يوسف القعيد، أو غيرهما من تلاميذ وحوارى الأستاذ لأحظى بهذا الشرف.. واكتفيت بالجلوس على بعد طاولات، مستمتعًا بالنظر إليه طوال الوقت.. حتى يغادر ريش!

وفى عام ١٩٩٤ وحين تعرض الأستاذ نجيب لمحاولة الاغتيال الآثمة الفاشلة.. بسبب روايته «أولاد حارتنا»، جاهدت كثيرًا حتى حصلت على أوراق قضية محاولة الاغتيال وملفات التحقيق السرية.. وعكفت عليها شهورًا حتى انتهيت من كتابى «أولاد شارعنا».. الذى حاولت فيه أن أكشف أسرار محاولة اغتيال أديب نوبل الكبير..

وعن نجيب محفوظ وعن شخصى المتواضع كتب الأديب الصديق جمال الغيطانى مقدمة الكتاب التى قال فيها: «كلاهما عزيز، وقريب من نفسى، وأحمل له ودًا وتقديرًا، المكتوب عنه وهو الأصل نجيب محفوظ، أستاذنا وهادينا ومعلمنا والكاتب محمود صلاح، أحد أغزر أبناء جيله موهبة، الألمع صحفيًا، النجم المضىء فى سماء دار «أخبار اليوم»، بكفاءته النادرة، وقلمه الطلى الرشيق، عرف كيف يقدم إلى المكتبة العربية مؤلفًا نادرًا وثمينًا، صحيح أن المحور يذكرنا بما جرى لعميد الأدب العربى الحديث، من محاولات غادرة، جعلت أعظم روائى فى العصر الحديث يبصم بأصبعه، بعد أن طال السكين المتعصب عصبًا يتصل بإمكانية الكتابة..

«وهنا تكمن المفارقة والمأساة، ولكن هذا الحدث الدامى له أسراره التى لم تعرف بعد، هكذا مضى محمود صلاح بدأبه وموهبته، وحبه الجارف الكاشف للحقيقة، ليقلب خمسة آلاف صفحة كاملة، ملف التحقيق فى قضية محاولة اغتيال أديبنا الكبير، ولم يكتف بذلك بل سعى يسأل ويستقصى ويستنظر الحقيقة، هكذا جاء هذا الكتاب المثير الذى يجيب عن أسئلة شتى..

ويرسم ملامح حقبة ومرحلة صعبة من مسار واقعنا.. ويكشف عن جوانب لم يعرفها أحد من قبل.. عن نجيب محفوظ الأصل الراسخ، والذى حاول فرعه الرشيق أن يتصل به مرة أخرى.. لتكتمل الدائرة التى بدأها محمود صلاح.. عندما شرع يقص ما جرى»!

أسعدنى تقديم الغيطانى، لما فيه من حب وصدق وحماسة.. لكن بعد أن صدر الكتاب أسعدنى أكثر أن الكتاب حاز إعجاب «عم نجيب» نفسه.. وهو الذى لم يكن يحب ان يتذكر أو يتحدث عن محاولة اغتياله..

ومرت سنوات والتقيت بالأستاذ نجيب أكثر من مرة فى ندوته الأسبوعية وأحيانًا فى بيته فى بعض المناسبات، لكننى دائمًا كنت أتصور بينى وبين نفسى أن كتابى «أولاد شارعنا».. وإن كان يدور حول واقعة محاولة الاغتيال إلا أنه رسالة حب خالصة من تلميذ محب إلى أستاذه الكبير.. حتى أهدانى الصديق والكاتب المتميز محمد سلماوى كتابه الأخير «نجيب محفوظ.. المحطة الأخيرة»، وبعد أن التهمت سطور الكتاب، أدركت أنه لم أكن وحدى التلميذ، ولم أكن وحدى المحب لنجيب محفوظ..

اختار سلماوى والذى كان أقرب الناس إلى نجيب محفوظ خلال السنوات الأخيرة قبل رحيله عن الدنيا، اختار لكتابه موضوعًا يهز القلب من الكلمة الأولى، فقد استدعى كما قال تجربة الـ٤٥ يومًا الأخيرة فى حياة أديبنا الراحل نجيب محفوظ.. من لحظة دخوله المستشفى يوم الأحد ١٦ يوليو ٢٠٠٦، إلى أن ورى التراب يوم الخميس ٣١ اغسطس ٢٠٠٦، بكل ما تضمنته تلك التجربة من وخزات ألم سددها القدر.. وما شهدته أيضًا من لحظات بهجة أشاعها نجيب محفوظ نزيل الغرفة ٦١٢ بين زائريه..

ولم يأتِ كتاب محمد سلماوى مجرد يوميات للفترة التى قضاها الأستاذ نجيب بمستشفى الشرطة قبل رحيله عن الدنيا، بل كان محاولة أدبية وإنسانية شفافة، لتقديم صورة رجل لم يكن كمثله أحد.. لا فى أخلاقه السامية، ولا فى شخصيته الفريدة، ولا فى إنجازه الأدبى غير المسبوق..

كان محمد سلماوى خلال السنوات التى سبقت رحيله عن الحياة زائرًا أسبوعيًا للمنزل رقم ١٧٢ بشارع النيل بالعجوزة، المواجه لشاطئ النيل، وهو بيت نجيب محفوظ، يزوره كل يوم سبت فى موعد لا يتأخر ولا يتأجل.. وهى الزيارة التى كان نجيب محفوظ ينتظرها بشغف كل أسبوع.. وفيها يعرض عليه سلماوى رسائل القراء.. وما استجد من أحوال الدنيا.. ويجرى معه حوارهما الأسبوعى لجريدة الأهرام.. وينقل له صدى «أحلام فترة النقاهة».. والتى كانت نوعًا جديدًا من الكتابة الأدبية.. كان نجيب محفوظ بحق رائدة فى الشرق وعلى مستوى العالم كله!

بدأت رحلة النهاية فى صباح يوم ١٦ يوليو ٢٠٠٦، عندما تعثر الأستاذ وهو يمشى داخل حجرة نومه، ووقع على الأرض، وأصيب بجرح غائر فى مؤخر رأسه، ودخلت عليه ابنته الصغرى «فاطمة» فوجدته فاقدًا للوعى وينزف بشدة، وتم نقله بسرعة إلى مستشفى الشرطة المجاور لبيته، حيث قام الأطباء بعمل بعض «الغرز» الجراحية لخياطة الجرح، وأعلنوا أنه سيغادر المستشفى بعد أيام قليلة..


وما أن أفاق نجيب محفوظ من العملية حتى وجد محمد سلماوى أمامه..

فسأله: هو إيه اللى حصل؟

شرح له سلماوى كيف تعثر ووقع وأصيب فى رأسه..

سأله الأستاذ: وبتقول إننا فى مستشفى الشرطة، وإنهم عملوا لى «غرزتين»؟

- رد محمد سلماوى: نعم..

قال نجيب محفوظ بخفة ظله المعروفة: لم أكن أعرف أن الشرطة تسمح الآن «بالغرز»!

وضحك من قلبه.. وضحك معه سلماوى.. الذى لم يكن يخطر على باله أكثر مما أكده الأطباء.. أن المسألة بسيطة.. وكل شىء طبيعى.

لكن عندما صدرت جرائد اليوم التالى وهى تحمل خبر اجابة نجيب محفوظ ونقله إلى المستشفى.. فوجئت السيدة «عطيه الله «قرينته بالتليفون يدق فى حجرته بالمستشفى.

وقال لها المتحدث: نحن رئاسة الجمهورية.. والسيد الرئيس حسنى مبارك يرغب فى التحدث إلى الأستاذ نجيب محفوظ!

شكرت زوجة الأستاذ المتحدث، وأبلغته بأنه لا يتحدث عادة فى التليفون بسبب ضعف سمعه، فاستأذن المتحدث منها للحظات.. ثم عاد ليقول لها إن الرئيس يود إبلاغ تحياته للأديب الكبير، ويسألها إن كانت فى حاجة إلى شىء.. فطلبت منه إبلاغ شكرها هى والأسرة للرئيس.

ثم يمضى محمد سلماوى فى كتابه ليروى تفاصيل أيام وآلام نجيب محفوظ فى المستشفى.. وكيف بدأ توافد المئات من تلاميذ وعشاق نجيب محفوظ على المستشفى لزيارته والاطمئنان عليه.. حتى قرر الأطباء فى النهاية منع الزيارة.. وقصرها على زوجته وابنتيه وعلى سلماوى وجمال الغيطانى ويوسف القعيد.. الذين كان الأستاذ يسميهم «أولادى»!

ولم يتوقف سلماوى عن زيارة نجيب محفوظ فى المستشفى صباح ومساء كل يوم.. وكان قلبه يرتجف صعودًا وهبوطًا.. مع تدهور أو استقرار الحالة الصحية للأستاذ.

وكان الأستاذ نجيب يحب أن يسمع من سلماوى قصيدة «خوسيه مارتى» شاعر الحركة الكوبية فى أواخر القرن التاسع عشر والتى كان يقول منها:

ازرع وردة بيضاء

فى الصيف كما فى الشتاء

للصديق المخلص

الذى يمد لى يده صادقًا

وللشخص قاسى القلب

الذى ينزع قلبى من بين ضلوعى

لا أزرع شوكًا ولا عوسجًا

أزرع وردة بيضاء

ويقول محمد سلماوى وكأنه يبكى: فى كل مرة كنت أقرأ فيها هذه القصيدة على الأستاذ.. كنت أشعر أن «مارتى» لا يمكن أن يكون قد كتب تلك القصيدة إلا عن نجيب محفوظ.. الذى ملأ حياتنا ورودًا بيضاء أسعدنا بها جميعًا.. حتى قساة القلوب منا.. الذين هاجموه.. لم يضمر لهم إلا تلك الوردة البيضاء التى لم يكن يملك غيرها!

قبل رحيل نجيب محفوظ بيوم أصيب فجأة بنزيف فى القولون.. وحاول الأطباء حتى منتصف الليل جاهدين إيقاف النزيف بلا جدوى.. وكان الأستاذ قد دخل فى الغيبوبة الأخيرة.

وجاء سلماوى إلى المستشفى حاملًا معه نسخة أولى من كتاب الأستاذ «أحلام فترة النقاهة».. وهو يظن أن الأستاذ سوف يسعد به وكان ينتظر صدوره.

فوجئ سلماوى بأخبار النزيف الذى أصاب الأستاذ نجيب.. وقف أمام حجرته ونظر إلى الداخل.. كان الأستاذ نائمًا يخضع لعملية نقل دم تعويضًا عما فقده من النزيف.

كانت الحجرة هادئة لا صوت فيها.. وكان الدم ينزل قطرة قطرة فى الخرطوم الذى يصل إلى يده اليمنى.. وخطا محمد سلماوى إلى داخل الغرفة بخطوات متثاقلة حتى وصل إلى حاف سريره.. كان وجه الأستاذ نجيب يبدو شاحبًا.. وقال الطبيب إنه ما زال تحت تأثير المهدئ الذى أخذه بعد العملية.

مال سلماوى على أذن الأستاذ اليسرى

- وقال له: صباح الخير يا أستاذ نجيب.

قال له الطبيب: لن يسمعك.. فهو لم يفق بعد.

- قال سلماوى: أعرف ذلك.. لكن ما لا أعرفه هو لماذا نزف؟

خرج الأطباء وتركوا سلماوى فى الحجرة مع الأستاذ الغائب فى غيبوبة المخدر.

وكان المشهد إنسانيًا مؤثرًا.. نجيب محفوظ نائم فى سريره فى غرفة المستشفى الباردة.. بأعوامه الخمسة والتسعين وذقنه التى طالت.. وجسده الذى أنهكه الزمن والمرض.. وسلماوى تلميذه المحب ومريده الوفى.

الأستاذ على فراش الموت.

والتلميذ يقف وحيدًا معه، حائرًا لا يدرى ماذا يفعل وماذا يقدم له ليخلصه من عذاب المرض وآلامه.

وفى قرارة قلبه يتمنى سلماوى لو أن الاستاذ يفيق ويتحدث، أن يقول ماذا يريد حتى ينفذه له الجميع.

- ويتساءل سلماوى بينه وبين نفسه: هل قال لنا لكننا لم نسمع.. ولم نفهم..

ربما قال بالكلمات حين صاح يومًا فى أدب: أرجوكم سيبونى.. كفاية!

أو ربما قال بالإشارة حين ظل ينزع بيده قناع الأكسجين، وقال: عايز أروّح!

وكانت زوجته السيدة «عطية الله» متى قالت لمحمد سلماوى إنها فى آخر مرة سمعته فيها يتكلم قبل أن يغيب عن الوعى، كان ينادى أشخاصًا رحلوا جميعًا عن عالمنا.. وأنها تعرفت من بينهم على اسم «صلاح جاهين»!

وحين سمعت الممرضات صوته وهو ينادى حاولن التحدث إليه، فلم يجب عليهن، وظل يتحدث إلى الآخرين الذين رحلوا.. لكنه الآن لم يعد يحدث.. لا مع سلماوى ولا مع الذين رحلوا!

نعم كان المشهد فى حجرة الموت مؤثرًا..

وكان المشهد والصمت أقوى من قدرة محمد سلماوى.. لكن الله وحده ألهمه أن يتحدث إلى الأستاذ الراقد على فراشه الغائب عن وعيه فى ساعاته الأخيرة فى الحياة.. فقرر سلماوى أن يحدثه كما لو أنه فى كامل وعيه.. تمامًا كما كان يحدثه فى بيته.. لقد أمضى السنوات يحدثه فى كل ما لم يكن يستطيع قراءته أو مشاهدته.. فلماذا يتوقف اليوم وفى تلك الساعات؟

مال سلماوى على أذن الأستاذ نجيب اليسرى..

وقال بصوت عال: أحلام فترة النقاهة صدرت يا أستاذ نجيب.. وهذه نسختك الأولى التى خرجت من المطبعة!

بالطبع لم يكن الأستاذ يسمع..

لكن سلماوى وضع الكتاب أمام عينيه.. لكن الأستاذ لم يفتحها.. ومع ذلك فقد مضى سلماوى يصف له شكل الكتاب وحجمه.. ثم فتح الكتاب وقلب فى صفحاته.

وتوقف عند حلم الأستاذ:

«رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات.. وتذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع» فاتصلت بتليفونها.. ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل.. وهناك رحبت بها بقلب مشوق.. واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأولى».

ثم يتوقف سلماوى برهة عن تكملة الحلم.. وهو يتخيل الأستاذ يبتسم

ويقول له ولكن هذه المرة بصوت هامس لا يسمعه الأستاذ ولا أحد غيره لأنه لا أحد فى الغرفة: على فكرة.. إنت لم تقل لى قط من هى «ع» هذه.. صحيح أننى لم أسالك.. لكن هناك أشياء كثيرة أشعر الآن أننى لم أسألك عنها!

وفى هذه يدخل الأطباء الحجرة فجأة..

ويتخيل سلماوى أن دخولهم هو الذى منع الأستاذ من الرد عليه.. وأنهم لو لم يدخلوا الحجرة لكان الأستاذ قد ضحك ضحكته المجلجلة.

ويغادر سلماوى المستشفى، وهو يجرجر أحزانه مع قدميه..

لكنه يعود فى اليوم التالى فيجد الأستاذ على نفس الحال ونفس الغيبوبة.. نائمًا على ظهره والأنبوب الكبير فى حلقه.. وخراطيم المحاليل واصلة إلى عروق رقبته.. وخراطيم أخرى فى يديه.. وخرطوم المعدة متدل من بطنه..

ولا صوت فى الحجرة سوى صوت دقات رتيبة تأتى من الأجهزة الطبية المعلقة فوق سرير الأستاذ.. الذى ازداد وجهه شحوبًا.

ورغم ذلك يقول له سلماوى: صباح الخير يا أستاذ نجيب!

ويجلس سلماوى إلى جوار السرير.. وينظر فإذا كتاب «الأحلام» الذى تركه بالأمس فى مكانه.. فيفتح الكتاب.. ويجد نفسه وعينيه أمام كلمات حلم الأستاذ!

«نادانى الشوق لرؤية الأحباب.. فتوجهت صوب الحى العتيق.. وكالعادة قطعت الطريق مشيًا على الأقدام.. حتى بدا لى البيت القديم وذكرياته.. ولم أضع وقتًا.. فأخذت فى الصعود نحو الطابق الثالث والأخير.. ولكنى داهمنى إرهاق غير يسير.. عند منتصف السلم.. جعلنى أفكر فى تأجيل الرحلة.. لولا أن طبعى يأبى التراجع.. وبجهد جهيد واصلت الصعود.. حتى بلغت البسطة الثالثة.. ومن موقفى الجديد لاح لى باب الشقة غارقًا فى الصمت والسكون.. فعلمت أنه لم يبقَ من الصعود سوى عشر درجات وهن ختام السلم.. لكنى لم أرَ درجة واحدة.. ووجدت مكانها هوة عميقة.. فخفق قلبى خوفًا على آل البيت.. ومع أن الوصول بات متعذرًا.. إلا أننى لم ألتفت إلى الوراء.. ولم أفكر فى التراجع.. بل لم أفقد الأمل.. وجعلت ألصق بصرى بالباب الغارق فى الصمت والسكون.. وأنا أنادى وأنادى.. من الأعماق!».

ويقطع دخول عدد من الممرضين إلى الحجرة حديث سلماوى الصامت مع نفسه.. وكان فى تلك اللحظة قد بلغ من انفعاله أشده.. مأخوذًا بنداء الأستاذ فى الحلم.. ذلك النداء الذى كان ينتظر أن يسمعه..

ويناجى سلماوى ربه:

«يارب.. إن رحمتك واسعة.. وقدرتك فائقة.. إبقه بيننا لأننا ليس لدينا مثله أحد.. لقد أبقيته ما يقرب من ٩٥ عامًا.. لكنا لا نطلب المزيد.. فلسنا نعرف كيف نعوضه.. اتركه لنا عامًا آخر أو اثنين لنزهو به بين الأمم.. إتركه لنا بضعة أشهر.. حتى حلول عيد ميلاده الـ٩٥.. اعطنا الفرصة أن ندخل البهجة إلى نفسه.. ونحن نقول له فى ذلك اليوم «عقبال مائة سنة».. اتركه لنا شهرًا واحدًا.. وسنجتهد خلاله أن نفعل له ما تفعله أمم الأرض كلها لعظمائها.. والذى لا نفعله نحن إلا حين لا يستطيعون رؤيته!

فى التاسعة من صباح اليوم التالى..

يدق جرس تليفون سلماوى.. على الطرف الآخر الدكتور «زكريا عزمى» رئيس ديوان الجمهورية.

الذى يقول له بتأثر: البقية فى حياتك.. الأستاذ نجيب توفى إلى رحمة الله!

ويهرع سلماوى إلى المستشفى فى حال لا يعلم به سوى ربه.. وهو يحدث نفسه بأن الأستاذ أخيرًا رحل إلى حيث أحبائه الذين اشتاق إليهم.. وكان يناديهم فى مماتهم.. ربما ليخبرهم بأن ينتظروه.. وها هو مشوار الأستاذ قد اكتمل..

وحين يصل المستشفى يدخل على الفور إلى حجرة الأستاذ.. ويجد أن الملاءة تغطى السرير كله.. والسرير يبدو خاليًا.. يرفع سلماوى الملاءة.. ليجد وجه الأستاذ أمامه.. تكسوه مسحة من السكينة.. لم يرحل وسط نوبة ألم.. لكنه كان قد فقد لونه تمامًا..

كان وجه الأستاذ هادئًا بلا تعبير.. تمامًا كما كان منذ قال أن يريد أن «يروح»..

ويعصف الانفعال بسلماوى.. وتهزمه دموعه..

وتجرى بقية الأحداث كما جرت.. وتتفق كل الآراء على إقامة جنازة عسكرية وشعبية مهيبة للأستاذ.. ويحضر الجنازة رئيس الجمهورية حسنى مبارك.. وكل رموز مصر الدبية والسياسية والبسطاء الذين عاش وكتب لهم وعنهم نجيب محفوظ..

وفى طريق عودة سلماوى بسيارته بعد الجنازة وتشييع جثمان الأستاذ الثرى.. يضع سلماوى شريط تسجيل يحمل صوت الأستاذ، وهو يقص على سلماوى بعض «أحلامه»..

ويأتيه عبر المسجل صوت الأستاذ بأول حلم بعد أن عجزت يده عن كتابته.. تلك اليد التى ظلت تكتب حتى أعيتها الدنيا.. وصارت كتابتها تستعصى على القراءة..

فى تلك اللحظة..

يرى سلماوى وجه الأستاذ.. ويسمع صوته يقول فى حلمه:

«رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات.. وتذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع» فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل.. وهناك رحبت بها بقلب مشوق.. واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأولى.. وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المعلم القديم ورحب بنا.. غير أنه عتب على المرحومة «ع» طول غيابها.. فقالت إن الذى منعها عن الحضور الموت.. فلم يقبل هذ الاعتذار.. وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة»!

وهنا يعيد سلماوى شريط التسجيل قليلًا..

- فيسمع صوت الأستاذ يقول: «الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة!». الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة!

بدأت رحلة النهاية فى صباح يوم 16 يوليو 2006، عندما تعثر الأستاذ وهو يمشى داخل حجرة نومه، ووقع على الأرض، وأصيب بجرح غائر فى مؤخر رأسه

التقيت «نجيب محفوظ» لأول مرة فى «ريش».. و«عم فلفل» أشار لى على الترابيزة الخاصة بالأديب أديب الحرافيش فى الثامنة صباحًا إلى المقهى لاحتساء القهوة.. قبل أن يتوجه إلى «الأهرام»

كان محمد سلماوى يزوره كل يوم سبت فى موعد لا يتأخر ولا يتأجل.. وهى الزيارة التى كان نجيب محفوظ ينتظرها بشغف كل أسبوع.. وفيها يعرض عليه سلماوى رسائل القراء

 

 

رأيت نجيب محفوظ أول ما رأيته على مقهى «ريش» الشهير فى قلب القاهرة فى منتصف السبعينيات، كنت أتردد على المقهى بين الحين والآخر، وأنا لم أزل بعد طالبًا فى الجامعة، بعد أن ربطنى إليه سحره الخاص، وعلمى أنه أبدًا لم يكن مثله مثل كثير من مقاهى القاهرة، بل هو منتدى وملاذ المثقفين والفنانين.. وسجل قديم لتاريخ مصر الثقافى والسياسى الحديث..

أيامها أشار لى «عم فلفل» أقدم جرسونات ريش إلى طاولة على الرصيف، وأخبرنى بكل إجلال «هذه ترابيزة الأستاذ نجيب»..

وسألت وعرفت أنه يأتى بانضباط فى الثامنة كل صباح، يجلس إلى طاولته، يطالع جرائد الصباح ويحتسى رشفات من فنجان قهوة، ثم ينطلق مشيًا على قدميه إلى مبنى «الأهرام» حيث مكتبه..

 

حرصت على أن أحضر قبل موعده اليومى، لكنى أبدًا لم أجرؤ على الجلوس إلى الطاولة المجاورة، لم أكن جمال الغيطانى أو يوسف القعيد، أو غيرهما من تلاميذ وحوارى الأستاذ لأحظى بهذا الشرف.. واكتفيت بالجلوس على بعد طاولات، مستمتعًا بالنظر إليه طوال الوقت.. حتى يغادر ريش!

وفى عام ١٩٩٤ وحين تعرض الأستاذ نجيب لمحاولة الاغتيال الآثمة الفاشلة.. بسبب روايته «أولاد حارتنا»، جاهدت كثيرًا حتى حصلت على أوراق قضية محاولة الاغتيال وملفات التحقيق السرية.. وعكفت عليها شهورًا حتى انتهيت من كتابى «أولاد شارعنا».. الذى حاولت فيه أن أكشف أسرار محاولة اغتيال أديب نوبل الكبير..

وعن نجيب محفوظ وعن شخصى المتواضع كتب الأديب الصديق جمال الغيطانى مقدمة الكتاب التى قال فيها: «كلاهما عزيز، وقريب من نفسى، وأحمل له ودًا وتقديرًا، المكتوب عنه وهو الأصل نجيب محفوظ، أستاذنا وهادينا ومعلمنا والكاتب محمود صلاح، أحد أغزر أبناء جيله موهبة، الألمع صحفيًا، النجم المضىء فى سماء دار «أخبار اليوم»، بكفاءته النادرة، وقلمه الطلى الرشيق، عرف كيف يقدم إلى المكتبة العربية مؤلفًا نادرًا وثمينًا، صحيح أن المحور يذكرنا بما جرى لعميد الأدب العربى الحديث، من محاولات غادرة، جعلت أعظم روائى فى العصر الحديث يبصم بأصبعه، بعد أن طال السكين المتعصب عصبًا يتصل بإمكانية الكتابة..

«وهنا تكمن المفارقة والمأساة، ولكن هذا الحدث الدامى له أسراره التى لم تعرف بعد، هكذا مضى محمود صلاح بدأبه وموهبته، وحبه الجارف الكاشف للحقيقة، ليقلب خمسة آلاف صفحة كاملة، ملف التحقيق فى قضية محاولة اغتيال أديبنا الكبير، ولم يكتف بذلك بل سعى يسأل ويستقصى ويستنظر الحقيقة، هكذا جاء هذا الكتاب المثير الذى يجيب عن أسئلة شتى..

ويرسم ملامح حقبة ومرحلة صعبة من مسار واقعنا.. ويكشف عن جوانب لم يعرفها أحد من قبل.. عن نجيب محفوظ الأصل الراسخ، والذى حاول فرعه الرشيق أن يتصل به مرة أخرى.. لتكتمل الدائرة التى بدأها محمود صلاح.. عندما شرع يقص ما جرى»!

أسعدنى تقديم الغيطانى، لما فيه من حب وصدق وحماسة.. لكن بعد أن صدر الكتاب أسعدنى أكثر أن الكتاب حاز إعجاب «عم نجيب» نفسه.. وهو الذى لم يكن يحب ان يتذكر أو يتحدث عن محاولة اغتياله..

ومرت سنوات والتقيت بالأستاذ نجيب أكثر من مرة فى ندوته الأسبوعية وأحيانًا فى بيته فى بعض المناسبات، لكننى دائمًا كنت أتصور بينى وبين نفسى أن كتابى «أولاد شارعنا».. وإن كان يدور حول واقعة محاولة الاغتيال إلا أنه رسالة حب خالصة من تلميذ محب إلى أستاذه الكبير.. حتى أهدانى الصديق والكاتب المتميز محمد سلماوى كتابه الأخير «نجيب محفوظ.. المحطة الأخيرة»، وبعد أن التهمت سطور الكتاب، أدركت أنه لم أكن وحدى التلميذ، ولم أكن وحدى المحب لنجيب محفوظ..

اختار سلماوى والذى كان أقرب الناس إلى نجيب محفوظ خلال السنوات الأخيرة قبل رحيله عن الدنيا، اختار لكتابه موضوعًا يهز القلب من الكلمة الأولى، فقد استدعى كما قال تجربة الـ٤٥ يومًا الأخيرة فى حياة أديبنا الراحل نجيب محفوظ.. من لحظة دخوله المستشفى يوم الأحد ١٦ يوليو ٢٠٠٦، إلى أن ورى التراب يوم الخميس ٣١ اغسطس ٢٠٠٦، بكل ما تضمنته تلك التجربة من وخزات ألم سددها القدر.. وما شهدته أيضًا من لحظات بهجة أشاعها نجيب محفوظ نزيل الغرفة ٦١٢ بين زائريه..

ولم يأتِ كتاب محمد سلماوى مجرد يوميات للفترة التى قضاها الأستاذ نجيب بمستشفى الشرطة قبل رحيله عن الدنيا، بل كان محاولة أدبية وإنسانية شفافة، لتقديم صورة رجل لم يكن كمثله أحد.. لا فى أخلاقه السامية، ولا فى شخصيته الفريدة، ولا فى إنجازه الأدبى غير المسبوق..

كان محمد سلماوى خلال السنوات التى سبقت رحيله عن الحياة زائرًا أسبوعيًا للمنزل رقم ١٧٢ بشارع النيل بالعجوزة، المواجه لشاطئ النيل، وهو بيت نجيب محفوظ، يزوره كل يوم سبت فى موعد لا يتأخر ولا يتأجل.. وهى الزيارة التى كان نجيب محفوظ ينتظرها بشغف كل أسبوع.. وفيها يعرض عليه سلماوى رسائل القراء.. وما استجد من أحوال الدنيا.. ويجرى معه حوارهما الأسبوعى لجريدة الأهرام.. وينقل له صدى «أحلام فترة النقاهة».. والتى كانت نوعًا جديدًا من الكتابة الأدبية.. كان نجيب محفوظ بحق رائدة فى الشرق وعلى مستوى العالم كله!

بدأت رحلة النهاية فى صباح يوم ١٦ يوليو ٢٠٠٦، عندما تعثر الأستاذ وهو يمشى داخل حجرة نومه، ووقع على الأرض، وأصيب بجرح غائر فى مؤخر رأسه، ودخلت عليه ابنته الصغرى «فاطمة» فوجدته فاقدًا للوعى وينزف بشدة، وتم نقله بسرعة إلى مستشفى الشرطة المجاور لبيته، حيث قام الأطباء بعمل بعض «الغرز» الجراحية لخياطة الجرح، وأعلنوا أنه سيغادر المستشفى بعد أيام قليلة..

وما أن أفاق نجيب محفوظ من العملية حتى وجد محمد سلماوى أمامه..

فسأله: هو إيه اللى حصل؟

شرح له سلماوى كيف تعثر ووقع وأصيب فى رأسه..

سأله الأستاذ: وبتقول إننا فى مستشفى الشرطة، وإنهم عملوا لى «غرزتين»؟

- رد محمد سلماوى: نعم..

قال نجيب محفوظ بخفة ظله المعروفة: لم أكن أعرف أن الشرطة تسمح الآن «بالغرز»!

وضحك من قلبه.. وضحك معه سلماوى.. الذى لم يكن يخطر على باله أكثر مما أكده الأطباء.. أن المسألة بسيطة.. وكل شىء طبيعى.

لكن عندما صدرت جرائد اليوم التالى وهى تحمل خبر اجابة نجيب محفوظ ونقله إلى المستشفى.. فوجئت السيدة «عطيه الله «قرينته بالتليفون يدق فى حجرته بالمستشفى.

وقال لها المتحدث: نحن رئاسة الجمهورية.. والسيد الرئيس حسنى مبارك يرغب فى التحدث إلى الأستاذ نجيب محفوظ!

شكرت زوجة الأستاذ المتحدث، وأبلغته بأنه لا يتحدث عادة فى التليفون بسبب ضعف سمعه، فاستأذن المتحدث منها للحظات.. ثم عاد ليقول لها إن الرئيس يود إبلاغ تحياته للأديب الكبير، ويسألها إن كانت فى حاجة إلى شىء.. فطلبت منه إبلاغ شكرها هى والأسرة للرئيس.

ثم يمضى محمد سلماوى فى كتابه ليروى تفاصيل أيام وآلام نجيب محفوظ فى المستشفى.. وكيف بدأ توافد المئات من تلاميذ وعشاق نجيب محفوظ على المستشفى لزيارته والاطمئنان عليه.. حتى قرر الأطباء فى النهاية منع الزيارة.. وقصرها على زوجته وابنتيه وعلى سلماوى وجمال الغيطانى ويوسف القعيد.. الذين كان الأستاذ يسميهم «أولادى»!

ولم يتوقف سلماوى عن زيارة نجيب محفوظ فى المستشفى صباح ومساء كل يوم.. وكان قلبه يرتجف صعودًا وهبوطًا.. مع تدهور أو استقرار الحالة الصحية للأستاذ.

وكان الأستاذ نجيب يحب أن يسمع من سلماوى قصيدة «خوسيه مارتى» شاعر الحركة الكوبية فى أواخر القرن التاسع عشر والتى كان يقول منها:

ازرع وردة بيضاء

فى الصيف كما فى الشتاء

للصديق المخلص

الذى يمد لى يده صادقًا

وللشخص قاسى القلب

الذى ينزع قلبى من بين ضلوعى

لا أزرع شوكًا ولا عوسجًا

أزرع وردة بيضاء

ويقول محمد سلماوى وكأنه يبكى: فى كل مرة كنت أقرأ فيها هذه القصيدة على الأستاذ.. كنت أشعر أن «مارتى» لا يمكن أن يكون قد كتب تلك القصيدة إلا عن نجيب محفوظ.. الذى ملأ حياتنا ورودًا بيضاء أسعدنا بها جميعًا.. حتى قساة القلوب منا.. الذين هاجموه.. لم يضمر لهم إلا تلك الوردة البيضاء التى لم يكن يملك غيرها!

قبل رحيل نجيب محفوظ بيوم أصيب فجأة بنزيف فى القولون.. وحاول الأطباء حتى منتصف الليل جاهدين إيقاف النزيف بلا جدوى.. وكان الأستاذ قد دخل فى الغيبوبة الأخيرة.

وجاء سلماوى إلى المستشفى حاملًا معه نسخة أولى من كتاب الأستاذ «أحلام فترة النقاهة».. وهو يظن أن الأستاذ سوف يسعد به وكان ينتظر صدوره.

فوجئ سلماوى بأخبار النزيف الذى أصاب الأستاذ نجيب.. وقف أمام حجرته ونظر إلى الداخل.. كان الأستاذ نائمًا يخضع لعملية نقل دم تعويضًا عما فقده من النزيف.

كانت الحجرة هادئة لا صوت فيها.. وكان الدم ينزل قطرة قطرة فى الخرطوم الذى يصل إلى يده اليمنى.. وخطا محمد سلماوى إلى داخل الغرفة بخطوات متثاقلة حتى وصل إلى حاف سريره.. كان وجه الأستاذ نجيب يبدو شاحبًا.. وقال الطبيب إنه ما زال تحت تأثير المهدئ الذى أخذه بعد العملية.

مال سلماوى على أذن الأستاذ اليسرى

- وقال له: صباح الخير يا أستاذ نجيب.

قال له الطبيب: لن يسمعك.. فهو لم يفق بعد.

- قال سلماوى: أعرف ذلك.. لكن ما لا أعرفه هو لماذا نزف؟

خرج الأطباء وتركوا سلماوى فى الحجرة مع الأستاذ الغائب فى غيبوبة المخدر.

وكان المشهد إنسانيًا مؤثرًا.. نجيب محفوظ نائم فى سريره فى غرفة المستشفى الباردة.. بأعوامه الخمسة والتسعين وذقنه التى طالت.. وجسده الذى أنهكه الزمن والمرض.. وسلماوى تلميذه المحب ومريده الوفى.

الأستاذ على فراش الموت.

والتلميذ يقف وحيدًا معه، حائرًا لا يدرى ماذا يفعل وماذا يقدم له ليخلصه من عذاب المرض وآلامه.

وفى قرارة قلبه يتمنى سلماوى لو أن الاستاذ يفيق ويتحدث، أن يقول ماذا يريد حتى ينفذه له الجميع.

- ويتساءل سلماوى بينه وبين نفسه: هل قال لنا لكننا لم نسمع.. ولم نفهم..

ربما قال بالكلمات حين صاح يومًا فى أدب: أرجوكم سيبونى.. كفاية!

أو ربما قال بالإشارة حين ظل ينزع بيده قناع الأكسجين، وقال: عايز أروّح!

وكانت زوجته السيدة «عطية الله» متى قالت لمحمد سلماوى إنها فى آخر مرة سمعته فيها يتكلم قبل أن يغيب عن الوعى، كان ينادى أشخاصًا رحلوا جميعًا عن عالمنا.. وأنها تعرفت من بينهم على اسم «صلاح جاهين»!

وحين سمعت الممرضات صوته وهو ينادى حاولن التحدث إليه، فلم يجب عليهن، وظل يتحدث إلى الآخرين الذين رحلوا.. لكنه الآن لم يعد يحدث.. لا مع سلماوى ولا مع الذين رحلوا!

نعم كان المشهد فى حجرة الموت مؤثرًا..

وكان المشهد والصمت أقوى من قدرة محمد سلماوى.. لكن الله وحده ألهمه أن يتحدث إلى الأستاذ الراقد على فراشه الغائب عن وعيه فى ساعاته الأخيرة فى الحياة.. فقرر سلماوى أن يحدثه كما لو أنه فى كامل وعيه.. تمامًا كما كان يحدثه فى بيته.. لقد أمضى السنوات يحدثه فى كل ما لم يكن يستطيع قراءته أو مشاهدته.. فلماذا يتوقف اليوم وفى تلك الساعات؟

مال سلماوى على أذن الأستاذ نجيب اليسرى..

وقال بصوت عال: أحلام فترة النقاهة صدرت يا أستاذ نجيب.. وهذه نسختك الأولى التى خرجت من المطبعة!

بالطبع لم يكن الأستاذ يسمع..

لكن سلماوى وضع الكتاب أمام عينيه.. لكن الأستاذ لم يفتحها.. ومع ذلك فقد مضى سلماوى يصف له شكل الكتاب وحجمه.. ثم فتح الكتاب وقلب فى صفحاته.

وتوقف عند حلم الأستاذ:

«رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات.. وتذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع» فاتصلت بتليفونها.. ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل.. وهناك رحبت بها بقلب مشوق.. واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأولى».

ثم يتوقف سلماوى برهة عن تكملة الحلم.. وهو يتخيل الأستاذ يبتسم

ويقول له ولكن هذه المرة بصوت هامس لا يسمعه الأستاذ ولا أحد غيره لأنه لا أحد فى الغرفة: على فكرة.. إنت لم تقل لى قط من هى «ع» هذه.. صحيح أننى لم أسالك.. لكن هناك أشياء كثيرة أشعر الآن أننى لم أسألك عنها!

وفى هذه يدخل الأطباء الحجرة فجأة..

ويتخيل سلماوى أن دخولهم هو الذى منع الأستاذ من الرد عليه.. وأنهم لو لم يدخلوا الحجرة لكان الأستاذ قد ضحك ضحكته المجلجلة.

ويغادر سلماوى المستشفى، وهو يجرجر أحزانه مع قدميه..

لكنه يعود فى اليوم التالى فيجد الأستاذ على نفس الحال ونفس الغيبوبة.. نائمًا على ظهره والأنبوب الكبير فى حلقه.. وخراطيم المحاليل واصلة إلى عروق رقبته.. وخراطيم أخرى فى يديه.. وخرطوم المعدة متدل من بطنه..

ولا صوت فى الحجرة سوى صوت دقات رتيبة تأتى من الأجهزة الطبية المعلقة فوق سرير الأستاذ.. الذى ازداد وجهه شحوبًا.

ورغم ذلك يقول له سلماوى: صباح الخير يا أستاذ نجيب!

ويجلس سلماوى إلى جوار السرير.. وينظر فإذا كتاب «الأحلام» الذى تركه بالأمس فى مكانه.. فيفتح الكتاب.. ويجد نفسه وعينيه أمام كلمات حلم الأستاذ!

«نادانى الشوق لرؤية الأحباب.. فتوجهت صوب الحى العتيق.. وكالعادة قطعت الطريق مشيًا على الأقدام.. حتى بدا لى البيت القديم وذكرياته.. ولم أضع وقتًا.. فأخذت فى الصعود نحو الطابق الثالث والأخير.. ولكنى داهمنى إرهاق غير يسير.. عند منتصف السلم.. جعلنى أفكر فى تأجيل الرحلة.. لولا أن طبعى يأبى التراجع.. وبجهد جهيد واصلت الصعود.. حتى بلغت البسطة الثالثة.. ومن موقفى الجديد لاح لى باب الشقة غارقًا فى الصمت والسكون.. فعلمت أنه لم يبقَ من الصعود سوى عشر درجات وهن ختام السلم.. لكنى لم أرَ درجة واحدة.. ووجدت مكانها هوة عميقة.. فخفق قلبى خوفًا على آل البيت.. ومع أن الوصول بات متعذرًا.. إلا أننى لم ألتفت إلى الوراء.. ولم أفكر فى التراجع.. بل لم أفقد الأمل.. وجعلت ألصق بصرى بالباب الغارق فى الصمت والسكون.. وأنا أنادى وأنادى.. من الأعماق!».

ويقطع دخول عدد من الممرضين إلى الحجرة حديث سلماوى الصامت مع نفسه.. وكان فى تلك اللحظة قد بلغ من انفعاله أشده.. مأخوذًا بنداء الأستاذ فى الحلم.. ذلك النداء الذى كان ينتظر أن يسمعه..

ويناجى سلماوى ربه:

«يارب.. إن رحمتك واسعة.. وقدرتك فائقة.. إبقه بيننا لأننا ليس لدينا مثله أحد.. لقد أبقيته ما يقرب من ٩٥ عامًا.. لكنا لا نطلب المزيد.. فلسنا نعرف كيف نعوضه.. اتركه لنا عامًا آخر أو اثنين لنزهو به بين الأمم.. إتركه لنا بضعة أشهر.. حتى حلول عيد ميلاده الـ٩٥.. اعطنا الفرصة أن ندخل البهجة إلى نفسه.. ونحن نقول له فى ذلك اليوم «عقبال مائة سنة».. اتركه لنا شهرًا واحدًا.. وسنجتهد خلاله أن نفعل له ما تفعله أمم الأرض كلها لعظمائها.. والذى لا نفعله نحن إلا حين لا يستطيعون رؤيته!

فى التاسعة من صباح اليوم التالى..

يدق جرس تليفون سلماوى.. على الطرف الآخر الدكتور «زكريا عزمى» رئيس ديوان الجمهورية.

الذى يقول له بتأثر: البقية فى حياتك.. الأستاذ نجيب توفى إلى رحمة الله!

ويهرع سلماوى إلى المستشفى فى حال لا يعلم به سوى ربه.. وهو يحدث نفسه بأن الأستاذ أخيرًا رحل إلى حيث أحبائه الذين اشتاق إليهم.. وكان يناديهم فى مماتهم.. ربما ليخبرهم بأن ينتظروه.. وها هو مشوار الأستاذ قد اكتمل..

وحين يصل المستشفى يدخل على الفور إلى حجرة الأستاذ.. ويجد أن الملاءة تغطى السرير كله.. والسرير يبدو خاليًا.. يرفع سلماوى الملاءة.. ليجد وجه الأستاذ أمامه.. تكسوه مسحة من السكينة.. لم يرحل وسط نوبة ألم.. لكنه كان قد فقد لونه تمامًا..

كان وجه الأستاذ هادئًا بلا تعبير.. تمامًا كما كان منذ قال أن يريد أن «يروح»..

ويعصف الانفعال بسلماوى.. وتهزمه دموعه..

وتجرى بقية الأحداث كما جرت.. وتتفق كل الآراء على إقامة جنازة عسكرية وشعبية مهيبة للأستاذ.. ويحضر الجنازة رئيس الجمهورية حسنى مبارك.. وكل رموز مصر الدبية والسياسية والبسطاء الذين عاش وكتب لهم وعنهم نجيب محفوظ..

وفى طريق عودة سلماوى بسيارته بعد الجنازة وتشييع جثمان الأستاذ الثرى.. يضع سلماوى شريط تسجيل يحمل صوت الأستاذ، وهو يقص على سلماوى بعض «أحلامه»..

ويأتيه عبر المسجل صوت الأستاذ بأول حلم بعد أن عجزت يده عن كتابته.. تلك اليد التى ظلت تكتب حتى أعيتها الدنيا.. وصارت كتابتها تستعصى على القراءة..

فى تلك اللحظة..

يرى سلماوى وجه الأستاذ.. ويسمع صوته يقول فى حلمه:

«رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات.. وتذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع» فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل.. وهناك رحبت بها بقلب مشوق.. واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأولى.. وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المعلم القديم ورحب بنا.. غير أنه عتب على المرحومة «ع» طول غيابها.. فقالت إن الذى منعها عن الحضور الموت.. فلم يقبل هذ الاعتذار.. وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة»!

وهنا يعيد سلماوى شريط التسجيل قليلًا..

- فيسمع صوت الأستاذ يقول: «الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة!».