الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الناس والحرب.. يوميات العبور «3-3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى المقالين السابقين، روى العقيد أسامة على الصادق، كيف تسلم تكليف العبور فى اليوم الموعود الذى انتظره مع رجاله ٦ سنوات ليستردوا فيه كرامتهم وكرامة الشعب المصرى بعد نكسة ١٩٦٧، وكيف عبر المقاتل السابق ورجاله إلى الجانب الشرقى من القناة لينسفوا فيها أكذوبة «الجيش الذى لا يقهر»، ويحطموا أسطورة خط بارليف المنيع.
وبعد أن سرد تفاصيل ما جرى منذ أن تسلم التكليف إلى أن واجه قوات العدو فى البر الغربى من القناة التى عبرها مع رجاله، يقول الضابط المقاتل أسامة الصادق الذى حصل على نوط جرحى الحرب ونوط الجمهورية من الرئيس السادات بسبب بطولاته فى الحرب ضد العدو الصهيونى وإصابته مرة أخرى فى حرب ١٩٧٣، فى كتابه «الناس والحرب» الصادر فى ٢٠٠٧: اشتد القصف من مدفعية العدو على قواتى وبدأت الصرخات تسمع فى موقعى وآهات وآلام من المصابين والشهداء وقادة الوحدات يبلغونى بعدد الشهداء وتوالى سقوط الضحايا وأنا ما زلت فى موقعى لا أستطيع التحرك، فنيران المدفعية شديدة وتركز بقصفنا بطريقة الأرض المحروقة، واسمع قائد اللواء يستغيث بقائد الفرقة بفتح نيران المدفعية والرجل يطلب منه التمهل لأن المدفعية تُقصف الآن بطائرات العدو وأنا أشاهد من موقعى استمرار تساقط طائراتهم.
أربعون دقيقة مرت على أسامة ورجاله لاحظ فيها دانات المدفعية تنفجر تباعا، حتى وصلت المسافات بين كل دانة وأخرى خمسة أمتار تقريبا وهذا يؤدى إلى الهلاك.. وبعض الدانات تسقط على الجندى مباشرة فتقذف به خارج حفرته صارخا وقد تمزق جسده إلى أشلاء؛ عمت الموقع رائحة الموت ورائحة شواء الأجساد المحترقة والمتفحمة.
ويضيف: «كان هناك شيء ما قلل من تأثير مدفعيتنا على مدفعية العدو وزادت وحدات الدفاع الجوى من صواريخها وقد أدى هذا إلى انفراج للمدفعية وقذفت مدفعية العدو التى هدأت من قذفها علينا كما قذفت طوابير دباباتهم، خاصة بعد أن وصلت بعض المعلومات بسقوط نقطتين من نقاط العدو فى أيدى قواتنا فحدث لهم هلع من جراء ذلك.. قائد الفرقة ورئيس عملياته يبلغونى بأن الاحتياطى المدرع عاد مرة أخرى «أستعد له وقد تدعم بكتيبة دبابات». «فى الهجوم التالى لم يتخذوا طريق المحور الشمالى المرصوف ولكنهم اتبعوا تكتيكا آخر وهو التسلل إلينا من بين الرمال التى نحتلها.. أصبحت فريسة سهلة لهم فلا عون ولا جوار قريبًا منى يساعدنى فى تلك الهجمات المتتالية، غيرنا وأبدلنا اتجاه أسلحتنا فى اتجاههم وكان هجومهم على هيئة قوس مع نيران كثيفة تسبقهم وحدث ما حُذرنا منه معركة اللحم مع الحديد خاصة لقرب نفاد الذخيرة والصواريخ».
ويصف أسامة تفاصيل ما جرى قائلا: تدمرت دبابتان للعدو وأسرعت بعض الدبابات فى اتجاه القناة مع ترك فصيلة مشاة ميكانيكية، شاهدتهم قادمين فى اتجاهى من جهة القناة وترجل عشرة منهم ومع أحدهم ميكروفون صغير متحدثًا: «قائد مصرى سلم نفسك فورا». وسمعت قائد الفرقة يصرخ فىَّ: إذا أمكنك سحب قواتك فافعل.. أحدثه وجنود العدو قادمون تجاهى لأسرى، لا يمكن هذا، مجرد ترك الجنود لحفرهم سيهلك أكثر من نصفهم كما لن أستطيع السيطرة عليهم ونعود لكارثة ٦٧.
أصدر أسامة أمرا إلى أقرب فصيلة بأخذ وثبة للخلف، لكن العدو كان يتنصت على الشبكة، واندفعت الرشاشات النصف بوصة تحصد جنوده فينكفئ الجميع أرضا البعض منهم هربا من النيران والآخرون للشهادة، «ألغيت أمر قائد الفرقة الذى ما زال صارخا بى لعدم تنفيذ الأمر وأنا أحدثه بأنه من الصعوبة تنفيذ هذا وسوف يؤدى إلى هلاك الجنود وأخبره باستشهاد سبعة جنود من اثنين وعشرين كانوا يستعدون لذلك، فطلب منى التمسك بموقعى ويخبر هيئة قيادته بأننى أدرى منهم بالموقف.
لم يلحظ أسامة من أطلق قذيفة «الـ آر بى جى» على إحدى مدرعات العدو التى جاءت لأسره، انفجرت المدرعة ولم يخرج منها سوى فرد واحد اشتعلت به النيران، لحظتها انكفأ الجنود الإسرائيليون المترجلون أرضا واحتموا بها والمسافة بينهم وبين قوات أسامة لا تتعدى ثلاثمائة متر.
بدأ أسامة فى إطلاق النار تجاه جنود العدو الذين اقتربوا لمسافة ١٠٠ متر، وطلب من كل الجنود بما فيهم جنود الإشارة إطلاق النار، «شاهدت طاقم مدفع ماكينة يجره طاقمه المكون من ثلاثة أفراد قادما فى اتجاهى مسرعا ونيران العربة المدرعة الأخرى توجه لهم مدفعها الرشاش بدفعات فيتساقطون تباعا، ولكن تبقى أحدهم وأنا أصرخ فيه، احتمى بالأرض، بلاش تجرى، ولكنه كان يرى ويشاهد نفسه فى الجنة، لم ولن أرى مشهدا مثل هذا فى حياتي، الشاب أحمد همام ابن العشرين عاما والذى التحق بالقوات المسلحة بعد أن جند منذ ستة أشهر وحيد والديه على أربع بنات يجرى بمفرده ومعه المدفع خلفه وأشاهده وهو ينفض عن جسده الطلقات، ثم انكفأ خلف مدفعه موجها جهة الجنود الإسرائيليين الذين نهضوا متقدمين فى اتجاهي، لقد كانوا مصممين على أسرى بأى وسيلة، ضغط على عتلة الضرب ليفرغ مائة طلقة بهم فيقضى على ثمانية منهم وهم يصرخون بهستيرية، وتتكالب قوات العدو على الموقع وأنا متأكد أنها دقائق أو ثوان ونصبح هالكين، فقد أصبحت المعركة كسر عظام بيننا وبينهم، خاصة أنهم فشلوا فى الوصول إلى النقاط القوية والتى سقط أكثرها والإصابات بينهم كثيرة ومفجعة غير الأسرى والجرحى، وانصب حقدهم عليّ وعلى قواتى هؤلاء هم السبب وهم يريدون هذا القائد لأسره وإذلاله».
اشتدت المعركة وفشل العدو فى أسر القائد أسامة بسبب شجاعة أحد رجالة وهو الشهيد أحمد همام، حتى سمع القائد كبسولة خروج مقذوف من دبابة، فقال لجنوده: ارقدوا إنها لنا، لم يكمل الرجل كلمته حتى سمع انفجار شديد وطقطقة فى خوذته ودماء غزيرة مندفعة منها، أيقنت أننى أصبت وأننى الآن سوف أصبح شهيدًا وأنا أسمع أنات وآهات وصراخا حولى وتذكرت أشياء ثلاثة وهى: تلاوة الشهادة وتلوتها فى سرى، الثانية ماذا سيحدث لأبى وأمى عندما يبلغهم نبأ استشهادي؟ والثالثة أنه يوم ميلادى ٦/١٠/١٩٤٤ لقد أتممت تسعة وعشرين عاما؛ بدأت الأصوات تخفت من حولى ولكنى سمعت وشعرت بأحد جنودى يدفعنى ويهزنى بقوة قائلا (قوم يا فندم الدبابة جاية علينا حيفعصونا)، وسمعت طرقعة وتهشم وشيء ثقيل الوزن على جسدى وكل ما حدث أننى سمعت نفسى أتأوه.
غاب أسامة عن الوعي، وشاهد فى غيبوبته وجوه جنوده الشهداء ناصعة بيضاء ترفرف من حوله، بعد أن اختفت أصوات الانفجارات والطلقات، وظهر له من وصفهم فى كتابه بمقاتلين نالوا من العدو، حتى أفاق فجأة فإذ بنيران شديدة تمسك فى ملابسه فسقط من أعلى التبة ليرقد على جانبه.
يصف تلك اللحظات قائلا: «لا أعلم أين أنا وماذا حدث وبدافع من الحياة جلست أتحسس جسدى وأطمئن على أعضائي»، وسقط أمامه «ميجور» إسرائيلى والنيران تلتهم جسده بعد أن سقط من دبابة محترقة طلب منه إنقاذه: «لقد تقابل القائدان المصرى والإسرائيلى وجها لوجه فى نهاية المعركة، أنا مصاب برأسى بينما هو فارق الحياة».
ويتابع: أسرع لى شخص لم أتبين من هو يحدثنى متسائلًا: مين اللى بيصرخ؟ ثم اتجه إلى وجهى صارخا.. آه.. مين سيادة الرائد.. مش قادر أشوفك.. ياه.. إيه ده.. خد ُحط الرباط على الجرح، أنت يا فندم الدم نازل من راسك زى الحنفية، تساءلت: مين؟ الواد مسُعد؟ أجابنى أيوه يا فندم إيه اللى حصل ده؟.
طلب أسامة من مُسعد المعاونة للتوجه لمركز الملاحظة، لكنه تركه فزحف حتى وصل إلى المركز، «وصلت وحاولت أن أتبين الأشخاص، أقلب فيهم وأنا لا أستطيع فحصهم مما ألم بيدى وظهري، اكتشف الواحد تلو الآخر، إنهم جنودى الذين رافقونى فى العبور.. بعضهم تعرفت عليه وآخرون لم أتعرف عليهم فهواية الإسرائيليين دهس الأحياء والأموات بدباباتهم، لقد تهتك بعضهم حسب حظه ونصيبه من جنزير الدبابة فمن داست الدبابة فوق ظهره أو مؤخرته استطعت أن أتبين وجهه، أما من داست على رأسه فلم أعرفه».
وعن قصة النجاة والعودة يقول أسامة: سرت مسافة تصل لأكثر من ستة كيلومترات وكنت أتعرقل فى شهداء أو مصابين والذى يستطيع السير معى كان يرافقنى واقتربت الساعة من التاسعة تقريبا حيث استطاع أحد المصابين الذى فقد ذراعه الأيمن أن ينظر إلى ساعته يعلمنا بالوقت، احتضنته جانبا وسرت به».
وصل أسامة ومن تبقى من رجاله إلى الساتر الترابى للقناة، وما زالت المعارك مستمرة على خط النار، بعد أن حقق الهدف من المعركة التى استمرت ٧ ساعات وهو منع قوات العدو من معاونة النقاط القوية وصد هجوم من دخلوها، وقد كتب الله لهم النصر بعد أن قضى منهم من قضى وأصيب من أصيب.
المجد للأبطال الشهداء، والعزة لكل من شارك فى تلك الملحمة.