الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هكذا أفكر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
من جميل ما يورده ويعلق عليه ويليام جيمس، نقلا عن الكاتب الإنجليزى الكبير جى كاى تشيسترتون، ما يلي: «فى مقدمة مجموعته الرائعة من المقالات بعنوان «الهراطقة»، كتب تشيسترتون: «يعتقد البعض، وأنا منهم، أنه فى نهاية المطاف، ما يهم أكثر فى الفرد، من الناحية العملية، هى رؤيته للعالم. بالتأكيد فما يهم صاحبة الفندق هو معرفة دخل المستأجرين فى المستقبل، وليست معرفة فلسفتهم. وما يشغل جنرالا مقبلا على معركة هى معرفة قوة العدو لا فلسفته. لذا فالمشكلة ليست ما إذا كانت نظريتنا فى الكون لها أى تأثير على الأشياء، وإنما المشكلة فى النهاية هى فى معرفة هل أنها الشيء الوحيد الذى لديه هذا التأثير؟».
ويمكننا فى ضوء هذه الإحداثيات فهم كثير من الأشياء فى وجودنا الذى يغلب عليه أن يكون فوضويا ومعتدا بنفسه بشكل يبدو غير مبرر. وجود قوته الأساسية هى إيماننا بجدواه فى ظل عالم يؤمن بسنة الاستمرار الذى يراه غبيا أكثر من إيمانه بالثورة والرغبة فى تحويل هذا العالم إلى مكان أفضل.
بل إن هنالك كثيرا من عتاة الفلاسفة ممن لا يرون للثورة جدوى أصلا، ويظلون متراوحين بين إيمان- معلن حينا ومضمر أحيانا- بحتمية كبيرة مصدرها التاريخ، وبين رفض ثقافى للثورة كحالة تحيل دائما على إخفاق معين داخل لتاريخ الذى يبدو أجمل بعيدا عن أرض الثوار والثورات.
تنويعات 
تحضرنى هنا مقولة جميلة لجيل دولوز فيها صدى قوى لأفكار ميشال فوكو حول هيمنة الخطاب: «خلف كل معلومة تختفى تعليمة» toute information est un mot d’ordre... فالعلم الواصف والذى ينشئ حكاية حول التاريخ هو نفسه العلم الذى يسمح لنا- أو يجبرنا على التصرف فى العالم بشكل أو بآخر، لكى تبقى موضوعية العلم أو جمالية الأدب وسحر الحكايات عناصر فلسفية تنطوى على كثير من الاستراتيجيات لا على البراءة الرومانسية التى تعودنا عليها. 
وهنا وجب السؤال: هل توجد علاقة بين الاستبداد والرغبة فى التدوين؟... معلقون كثيرون يربطون بين ظواهر ثقافية خطيرة جدًا برمجت العقل العربى برمجة خاطئة، وبين الاتجاه السياسى المستبد السائد (إشاعة نصوص الحديث بدلًا من القرآن لدى بنى أمية، والنزعة التأويلية الغنوصية بدلا من الثقافة النصية التحليلية التحاورية لدى الشيعة، أو دعم اتجاهات موالية للسلطة على حساب اتجاهات نقدية لدى العباسيين... إلخ إلخ إلخ).
لقد وقف المؤرخ الفرنسى المختص فى الثقافة الإغريقية جون بيار فيرنون J-P Vernant وقفة مساءلة مع الظهور المباغت للتراجيديا فى أُثينا، فى مرحلة محدودة ثم اختفاؤه إلى غير رجعة، واصفا إياه كنوع محدود زمانا ومكانا بشكل يستوجب التفسير. ويذهب فيرنون إلى أن مرحلة انتشار شبق التدوين فى أثينا هى مرحلة هيمنة رأس الملوك المستبدين فيها: بيزيزسطراط، وبعضهم يقول عنه إنه المستبد الإغريقى الوحيد لشدة تفننه فى نحو آثار خصومه، ومن غريب الأخبار أنه هو من أمر بتدوين الملحمتين، وهو من شرع فى تنظيم العروض المسرحية الشهيرة التى تخترق نصف قرن بشكل فجائى لتختفى تماما كأنه لم يسبق لها أن كانت... ويذهب فيرنون إلى أن محتويات هذه النصوص قد تكون متماشية مع ذوق الجمهور عموما، وهو ما يجعل الملك الطاغية قريبا من الناس، من جهة، ويجعلهم، من جهة أخرى، يفكرون بالشكل الجبرى المذعن للقدر الذى يهيمن على المحتوى المسرحى لتلك المرحلة.
بهذا الشكل تصبح التراجيديا، فيما نراه فنا للاحتيال على عقل تلك المرحلة، ففيها تشيع روح شعرية وروح ميتافيزيقية مع روح احتفالية- حسب مصطلح غى ديبور G. Debord... روح شعرية تنتصر للانفعال على حساب التعقل، وروح ميتافيزيقية تصر على تدخل القوى الغيبية فى الحياة اليومية وفى أدق تفاصيل الأحداث، ثم روح احتفالية تجعل الصوت المهيمن على الخشبة، وهو صوت يتحكم فيه الحاكم المستبد أو الطبقة السياسية المهيمنة، صوتا يحمل الحقيقة بسبب علوه وظهوره وغلبته على الأصوات الأخرى.
للملاحظة؛ فإن أرسطو يذكر بيزيسطراط مرارًا فى كتابه «الكون والفساد»، مشيرا مرة أولى إلى كثرة الأخبار التى عمل هو نفسه على إشاعتها حول نفسه، وإلى كثرة الأخبار الخاطئة حوله، مع الإصرار على أن ما لا شك فيه هو أن كل ما فعله (مثل إنشاء أول مكتبة عمومية فى التاريخ الإغريقي؛ وبالتالى فى التاريخ الأوروبي)، هو لأهداف سياسية محضة، وهذا أمر لا يدخله أرسطو فى دائرة الشك والتمحيص.
على صعيد آخر، يلاحظ المؤرخ الفرنسى المعول عليه باتريك بوشرون P. Boucheron ما يلي: 
«بسبب قوتها المطلقة؛ فإنه يحدث للإرادة الاستبدادية أن تكون غير مفهومة قط- وهذا الشعور المأساوى بعبث القوة المطلقة هو الذى يدفع الكتاب إلى تقديمه بشكل معقول متماسك وربما كوميدى أيضا. ولكن من المفارقات فعلا أن تسهم الكتابة فى تأقلم القارئ مع الأهوال، وذلك بوضع عنف الدولة فى أفق سردى مألوف». أى أن الخطاب يخلق حميمية ما تنطلى على كل شيء يشمله، وبقدر ما ترتكز «أهوال» السياسة على السر لتحقيقها بقدر ما ترتكز على هذه المسرودات، أو هذه «الرواية الوطنية»، كما يسميها المختصون؛ والتى هى رواية تمثل وجهة نظر ولدت شخصية ثم احتاجت إلى التاريخ كله لكى تتحقق.
زبدة القول
تعقيبًا على رأى تشيسترتون الوارد أعلاه، يقول ويليام جيمس فى كتاب دروسه الشهير تحت عنوان «البراجماتية»: «فى هذه النقطة، أتفق مع رأى السيد تشيسترتون. أعلم أنكم جميعا تمثلون طريقة خاصة للنظر إلى الأشياء، فكل واحد منكم أيها السيدات والسادة لديه فلسفته ولا شيء أهم من هذا، إنها الطريقة التى تحدد بها المنظور داخل الأكوان الخاصة بك، على التوالي. أنت تعرف أنه الوضع نفسه بالنسبة لي. ومع ذلك، يجب أن أعترف أنه ليس كذلك دون تخوف من أن أبدأ فى هذا المشروع الجريء الذى يجمعنا؛ لأن هذه الفلسفة، التى يهتم بها كل واحد منا، ليست مطلقة ولا مطردة. إنها هذا الشعور الغامض بأن لدينا معنى عميقًا وحقيقيًا للحياة. معنى لا تعطينا الكتب سوى جزء صغير منها. إنها طريقتنا الشخصية فى رؤية الكون برمته، وفى الشعور به، بقوته وبمدى ضغطه على الأشياء».
ما يحدث مع أصحاب السياسة الشمولية هو بالذات الرغبة العارمة الجارفة فى محو الإرادات الأخرى لفائدة إرادة فرد، أو جماعة محددة بعينها، وذلك من خلال الهيمنة على الخطاب وشكله ومسرحه أيضا.