الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فلسفة روسو من حق الاعتراض إلى حرية الاعتقاد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تقنع أحلام روسو الشباب ولم يرض عنها الشياب، ويبدو ذلك بوضوح فى التعليقات التى طالعناها على ما أوردناه فى المقال السابق. وها هى تساؤلاتهم وتعقيباتهم. 
جاء السؤال الخامس على لسان أحدهم: إذا كان الإيمان بالله محض اختيار إنسانى ولا يحتاج إلى قوة خارجية تدفعنا إليه أو تحثنا على الاعتراف بوجود الله، فلماذا أرسل الله الأنبياء والرسل؟ وهل يجوز لنا الاعتراض على الموروث حتى لو كان مقدسًا؟ وهل الحرية التى يحدثنا عنها روسو تبيح لنا الإلحاد إذا لم نقنع بالإيمان؟ الحق أن حديث روسو السابق يذكرنا بمغالطات أوغسطين وحجج توما الإكوينى للشباب، وفى هذا رجوع إلى فلسفة العصر الوسيط الإشراقية.
يرى روسو أن المسائل الغيبية لا يمكن للطفل إدراكها، وكذلك الشاب لا يشغله إلا ما يراه وما يسمعه من المدركات الحسية، وعليه أن التلقين العقدى لا يجدى مع الأطفال أو الشباب، بل سوف يرسخ التلقين عندهم معتقدا هشا سرعان ما يُهدم أو يتبدد إذا ما طرح على مائدة العقل، أى عند سن الرشد، فالطفل فى باريس تلقنه الكنيسة عقيدة الفداء والخلاص، وفى مكة يُلقن أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس. وعند بلوغ الطفلين سن التعقل والتأمل سوف يدرك أن الثقافة والعقل الجمعى هما اللذان غرسا فيه هذا المعتقد. ويعود روسو ويؤكد أن الحرية التى ينشدها فى التربية لا تعنى تحريضًا على العصيان أو ارتكاب الشرور، بل إتاحة الفرصة أمام النشء والشبيبة الرجوع إلى طبائعهم الخيرة والمؤمنة بوجود الله الخالق طواعية غير مدفوعين بتعاليم الكهان ولا بسلطة الآباء، ويقول: « إن الروح لفظ لا يدرك معناه إلا الفيلسوف، فالروح عند الجمهور وعند الأطفال ليست سوى جسم... كما أن أفكار الخلق والأزل والقدرة أفكار غامضة وعويصة ولا يدرك العامة ما فيها من غموض، مع أنهم لا يفهمون شيئًا منها ومن ثم لا يمكن عرضها على الأذهان الشابة التى ما زالت مشغولة بالمدركات الحسية التى تدور من حولهم، فإذا سألت أحدهم عن وجود الله وقوته لأجاب أن الله موجود وفى قوة أبيه... كما أن العدالة الإلهية لم تخلق الإنسان حرًا ليدمر النظام الكونى الذى وضعه الله، كما أنها لم تدفعه إلى فعل الشر، ولكنها هيأته لفعل الخير والإيمان دون أدنى تدخل منها فى ذهنه وإرادته، وعليه فإن كل الأفعال الشريرة تقع تبعتها على إرادة الإنسان الحر وذلك ليتحقق العدل، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) سورة الزلزلة، وخلاصة القول « أننا لا نعلم النشء هذا الدين أو ذاك، وإنما سنضعهم فى موضع يتيح لهم استعمال عقولهم على أفضل نحو يقودهم إلى الاختيار السليم بعد أن يتعرفوا بأنفسهم على ما يحتويه هذا الدين وهاتيك الشرائع – إيمان أو إلحاد أو هذا الدين أو ذاك – والأهم هو أن يعى الشباب جوهر الدين وهو الذى يتمثل فى الإيمان بوجود الله الخالق والعناية الإلهية وخلود الروح، وهذه الأمور تحتاج إلى من يرشدهم إليها دون قهر أو إرغام. 
السؤال السادس: لماذا يشقى المؤمنون وينعم الملاحدة والمشركون؟ 
يجيب روسو: فقد خلق الله الإنسان ومنحه صفة الوجود، ومن ثم كان لزامًا عليه أن يعمل الأفعال الصالحة ليشكر الله على تلك النعم، وبموجب هذه الأفعال سوف يكافئه الله فى الحياة الأخرى بالنعيم الأبدي. 
فإذا كان الإيمان والإلحاد خيارين أمام الإنسان فمن المنطقى أن ننسب النجاح والفشل لتقديرات الإنسان أيضًا، أما إذا تبرمنا واتهمنا القدر بالظلم فإن ذلك يخالف مبدأ الحرية الذى آمنا به، ويخالف أيضًا مبدأ خيرية الخالق فى حالة إنكارنا لعدله. فإن الخالق لم يعاقب فى الدنيا الملحد على إنكاره له ولم يمنح المؤمن به مكافأة دنيوية على اعترافه بوجوده، فقد منح الخالق كليهما نعمة الوجود والحياة، وأرجأ محاسبتهما عن أعمالهما إلى الحياة الأخرى. 
ويعلق أحد الشبيبة: احذروا يا إخوة من تلك الشعارات المعسولة، إن حديث روسو لا يخلو من المتناقضات، كما أنه يلقى بحديثه بذور العلمانية لتنمو فى أنفسكم، فهو من أوائل دعاة (الدين الطبيعى) وهو الجانب الميتافيزيقى الذى تبنته الماسونية فى معتقداتها التى ترمى إلى هدم الدين، والعولمة الثقافية، باسم شعار الوحدة الإنسانية، وقد تأثر بهذا الوجه فى التفكير العديد من مفكرينا العرب من أمثال شبلى شميل وسلامة موسى فى مصر وأمين الريحانى وجلال صادق العظمة فى الشام، والكثير من الكماليين فى تركيا من أمثال عدنان أوكتار ( ١٩٥٦-... )
ومن يطالع حياة روسو سوف يدرك أنه كذوب وخادع وعربد فى صباه وارتدى لباس العفة فى شيخوخته. ولا ننسى أنه لم يكن مربيًا ولم يختبر تعاليمه فى تربية أولاده، بل ألقاهم جميعًا فى الملجأ – ومنهم ابنه اميل-.
وفى السؤال السابع: يتساءل شاب آخر: هل يمكن الاعتماد على الفلاسفة وحدهم لبلوغ الحقيقة فى الأمور الدينية؟ كما ينصح المفكرون الأحرار والعقليون من المجدفين؟ 
يجيب روسو على لسان الراهب سافوى الذى جاء به ليعلم ابنه اميل» أن الفلاسفة يشككون فى كل شيء ولا يؤكدون أى شيء. وهم متعجرفون، جازمون، اعتقاديون – حتى فى ارتيابهم – فهم لا يثبتون شيئا، ساخرون بعضهم من بعض، وأنهم هدامون أكثر من كونهم بنائين، وهم ينتصرون عندما يهجمون، ولكن تعوزهم القوة عندما يدافعون، وعليه لا تجد عندهم اليقين الذى يطمئن سريرتك، ولا البرهان الذى يسلم به عقلك» وينتهى روسو إلى أن السبيل للإيمان الحقيقى هو العزوف عن رجالات الدين والفلاسفة أيضًا، والاعتماد على التأملات الذهنية والقناعات الشخصية فقط. 
وتتساءل إحداهن فى السؤال الثامن: ماذا عن الأخلاق والعيب والشر والحرام والطيب والحلو والحلال؟ لقد نشأنا – نحن عصبة الشباب – على أن الثابت الأخلاقى إنما يستمد من الدين أو الأعراف، فكيف يتحول الإلزام إلى التزام؟
يجيب روسو: أن تربية الصغار وتنشئتهم على النصح أو القهر أو الجدل عند التوجيه من الأمور التى تنعكس انعكاسًا سلبيًا على الفرد فى سن الشباب، فالوالد عندما يوجه طفله إلى شيء حسن أو يمنعه عن فعل قبيح يجب أن يذكر له الآثار المادية المترتبة على هذا الفعل أو ذاك، فلا يقال للطفل أو الصبى «لا تفعل» لأن هذا عيب أو هذا حرام، وإذا جادل ضاق الأب ذرعًا بجدله ولجأ للعنف لينصاع ابنه لأوامره، فيلجأ الطفل إلى منطق التحايل فيكذب أو يتظاهر بالاقتناع، وسوف يصاحبه هذا المنطق حتى يصل إلى سن الشباب فيفعل بخلاف ما أجبر على فعله فى صباه حتى لو كانت الصلاة، فالشاب الفاسد هو الذى تربى فى كنف القهر ومجتمع مستبد (ومعية الكهنة) وما يصدق على التربية والأخلاق يصدق على المعرفة أيضًا، فينبغى على المعلم توجيه المتعلم إلى كيفية استيعاب المعارف واختزانها واسترجاعها، فليس هناك جدوى من كل أشكال التلقين «إن هدفى ليس أن أمنحه العلم، بل أن أعلمه كيف يستوعبه ويسترجعه عند الحاجة، وكيف يقدره، وأن يحب الحقيقة ويجعلها فوق كافة الأمور». 
ولعل أخطر الأسئلة هو ذلك الذى أثارته إحداهن فى السؤال التاسع: ماذا عن المرأة وحقوقها؟ 
يجيب روسو فى كتابه «اميل»: «إن المرأة إنسان ولها نفس الحقوق الكاملة التى منحتها الطبيعة للجنس البشري، غير أنه يعود ويقرر أن الطبيعة جعلت الرجل قويًا والمرأة رقيقة وضعيفة ومن ثم لا ينبغى عليهما الجنوح عن هذا القانون الطبيعى» فالمرأة قد جُعلت أساسًا لإرضاء الرجل، ولئن كان للرجل أن يرضيها، فذلك عن ضرورة أو لأن ميزته الأولى هى قوته، إذا فهو يروق فى أعين المرأة لقوته. وهذا قانون الطبيعة وليس قانون الحب.
وللحديث عن فلسفة روسو بقية.