الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الكتابة خُبز الليل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«ما يخبزه المعبد طوال الليل
 يتناوله العُباد عند الصباح».
من أسطورة أنانا، إلهة العشق، تتصاعد روائح الكتابة فى شوارع الليل، شهية منادية، تستدعى أرواح العُباد مثل بحّار يثير النسيم بحك أظفره على الصاري. حيث الكاتب مرتديا صدرية الخباز، والعجين الخمران تصوحه نيران الأفكار. 
مع خبز الكتابة لا يخرج الرغيف من الفرن إلا منقسما، هكذا تقول الحكاية: ثمة غريب سيشاركك فيه، أيها الكاتب.
هكذا يغزل لؤى حمزة عباس لوحاته عن الكتابة والكُتاب فى مؤلفه البديع «الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق»، لكن ما الذى يدفع كاتبا ما ليجلس إلى طاولته ويملأ رزمة من الأوراق بمداد عرقه ودمه؟ هل هو البحث عن الوجاهة والسعى المحموم للانتقال من شريحة اجتماعية متدنية إلى أخرى أكثر تقديرا واحتراما فى مجتمع ما، أم الرغبة فى تحقيق شهرة أو مكسب مادي؟ أم هو عدم القدرة على الفكاك من أسر الفن حتى لو عاش الكاتب مذموما وبائسا وفقيرا؟ 
ما الدافع وراء الكتابة.. ولماذا يكتب هؤلاء الكتاب؟ للإجابة عن هذا السؤال كان يلزمنا أن نعود إلى بعض الكُتاب الذين لاقت أعمالهم استحسان الجمهور والنقاد ليس فى بلدانهم وحسب، وإنما خارج حدودهم أيضا.
يقول آرمستد ماوبين: أكتب لأشرح نفسى لنفسي. إنها طريقة لفهم كوارثي، لترتيب بعثرة الحياة، لأعيرها الاتساق والمعنى. منذ ستة أعوام، وفى رواية «المصغى إلى الليل» كتبت عن انفصال فيما كنت أمر بتجربة مماثلة، آملا أن تقودنى للنور. غير أننى لم أكن أواجه ألمى أكثر مما كنت أكبحه، أدسه فى صندوقى الأنيق المسمى «رواية»؛ حيث تبقى أسوأ آلامى بعيدة عني. أغلب الكتاب يوظفون تجاربهم على هذا النحو، غير أنه عمل شاق. فعلى الحياة أن تكون أكثر من مجرد مادة. والرواية فى النهاية قد تكون هى التى تكتبك.
لقد منحتنى الكتابة الوسيلة لأضع أفكارى ومشاعرى فى إطار الخوض فى خطر المواجهة الحقيقية.
قبل الشروع فى الكتابة بزمن طويل، كانت متعتى تتمثل فى سرد القصص والاستحواذ على انتباه الحاضرين، فأبناء الجنوب يميلون لفعل ذلك. وعند الثامنة، كنت أقوم بمزج الأساطير الشعبية وقصص الأشباح فى حكاياتي، وأسردها حول نار المخيم فى المعسكرات الصيفية ورحلات الكشافة. كنت لا أجيد الرياضة، غير أننى استطعت أن أجعل الأولاد يجلسون على حافة مقاعدهم الخشبية. وعلى هذا النحو أظن أننى تعلمت اكتشاف قيمة ذاتي.
أما ريك مودى، الذى ظل سنوات طويلة محتفظا بكتاب فارغ، شرع فى استخدامه عندما كان فى الصف السادس لكتابة روايتين لم يتمهما؛ فيقول: كتبت ربما عشر صفحات من كل واحدة. أذكر أن إحداهما كانت عن طفل أصبح نائب الرئيس. ما زلت أحتفظ بذلك الكتاب الغريب فارغ الصفحات الذى استخدمته للبدء فى كتابة هاتين الروايتين. الحكة التى تصيبنى لإنجاز عملى تعود ـ على الأقل ـ إلى هذا الحد.
يمارس ريك مودى الكتابة لأنه وكما يقول: أكون أثناء الكتابة أفضل مع اللغة، أكثر مما أنا عليه فى الواقع. لكى أصلح عجزي، وأستعيد ثقتي، وفى هذه اللحظة بالذات، لأننى لا أعرف ماذا أفعل غير الكتابة. إننى أكتب كما أتنفس وآكل يوميا، على سبيل العادة.
سيكون أسهل على القول بأن شيئا ما يحدث معى عندما أكتب، أو حتى عدد من الأشياء المتوقعة، ولكن الحقيقة هى أن عددا كبيرا من الأشياء العظيمة، المتقلبة، غير القابلة للتنبؤ، حدثت لى وأنا أكتب على مر السنين.
أظن أننى أمارس الكتابة منذ ما يقارب الثلاثة والثلاثين عاما، أنشر الكتب منذ حوالى عشرين عاما. أحيانا تكون الكتابة ملهِمة أو ملهَمة، وأحيانا أخرى تكون مجردة من كل شيء إلا الحاجة لمزاولة العمل. 
أما مارى كار؛ فهى تكتب لتحلم، لتتصل بالآخرين، لتوثق، لتوضح، وكما تقول: لأزور الميت. لدى مارى الرغبة نفسها التى تراود الغالب الأعم من الكتاب والفنانين وهي: ترك بصمة فى العالم. لكنها ومع رغبتها تلك تحتاج إلى النقود التى نحتاجها جميعا.
تقول ماري: أكون قلقة معظم الوقت أثناء الكتابة. توجد تلك اللحظات العظيمة حيث تنسى أين أنت ومتى اعتلت أصابعك المفاتيح، لا تشعر بشيء لأنك فى مكان آخر. لكن هذا نادر الحدوث، غالبا ما أضرب بيدى على صدر جثة.
تؤكد مارى أن الطريق للكتابة ليس مفروشا بالورود والأوقات الهادئة، بل: هناك العديد من المطالب لأقوم بأشياء لعينة أخرى ـ التجوال وإعطاء المحاضرات ـ لكنها ليست فظيعة.
إذا لم أستطع الكتابة سأحزن جدا. أظننى سأقوم بعمل ما له علاقة بالبدن. قد أكون معلمة يوجا أو مدربة فى صالة رياضية أو معالجة مساج. بالطبع لا شيء سيعالج حاجتى للكتابة، هذا يبرر استمرارى فى الكتابة.
تمحو الكتابة الكاتب، تزيح حضوره لصالح حضورها، إنه الظل الذى يتراءى فى لحظة واقفا خلف ستارة الكلمات، لكنه سريعا ما يخبو ويعود من حيث جاء متخذا سبيله القديم فى مملكة الكتابة؛ حيث كل شيء يرجع إلى بدئه، ويصبُ فى منتهاه.
هذه هى الكتابة كما يراها صاحب «إنقاذ اللغة من الغرق»، أما الكاتب فهو: مازح، مستهزئ، مرح، خشن، طائش، لعوب، واحد من الفتيان المرحين، يسير بخطى حثيثة حمقاء على حبل. لاعب سيرك الكلمات يتنقل على الأسرة، يقف تحت النوافذ الموصدة مغنيا بقلب كسير.