الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود صلاح يكتب: حكاية أخطر رجل فى مصر.. وامرأة إنجليزية!

محمود صلاح
محمود صلاح
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«السنوسى» سمح لـ«خديجة» بارتياد الصحراء ودخول عواصم بلاده
عاد «ابن بولاق» من لندن ينافس شباب الإنجليز فى قامته الرياضية وتفوقه عليهم فى لعبة «الشيش»
الصحراء المصرية والليبية شهدت مغامرة أحمد حسنين وروزيتا فوربس

تاريخ مصر مرصع بأسماء شخصيات عظيمة كان للكثير منها أثر وتأثير على مسار هذا التاريخ. شخصيات سياسية وأدبية وفنية لا ينساها المصريون مهما طالت سنوات الزمن. من هذه الشخصيات أحمد باشا حسنين، الذى أطلق عليه الكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين لقب «أخطر رجل فى مصر»، وقد كان ذلك أيام الملكية. كان أحمد باشا حسنين بالفعل من الشخصيات البارزة فى تاريخ مصر فى تلك الفترة، وكان رجلًا مميزًا موهوبًا متعدد المواهب والإمكانيات، فقد كان رياضيًا وحصل على بطولات فى «سلاح الشيش» فى جامعة إكسفورد، وكان رحالة جاب الصحراء المصرية وكان له فضل اكتشاف بعض واحات الصحراء، وكان رجل سياسة داهية تنقل فى المناصب حتى أصبح رئيسًا للديوان الملكى، بل إنه تزوج الملكة نازلى بعقد زواج عرفى فى نهاية أيامه.
كانت لحسنين باشا سمعته أيضًا كعاشق كبير ودون جوان عصره، فقد أحب أسمهان وأحبته الملكة نازلى.
لكن امرأة واحدة أساءت إلى أحمد باشا حسنين فى بداية حياته، وقد دخلت قصة هذه المرأة وهى إنجليزية التاريخ، من خلال مغامراتها مع أحمد باشا حسنين فى الصحراء المصرية والليبية.
فى يونيه من عام ١٩٢٠ نشرت مجلة «اللطائف المصرية» على صدر صفحتها الأولى، خبرًا عنوانه «الست خديجة الإنجليزية تجتاز الصحراء إلى مصر».
وقالت «اللطائف» التى نشرت صورتين لهذه المرأة الإنجليزية على نفس الصفحة: «هذه صورة السيدة الإنكليزية الشهيرة روزيتا فوربس التى اجتازت صحراء ليبيا متنكرة كامرأة مسلمة اسمها الست خديجة «المولدة» وكان يصحبها فى رحلتها صاحب العزة أحمد حسنين بك المفتش فى الداخلية الذى نشرنا صورته وشيئًا عنه فى شهر أبريل الماضى».
دفعت الأقدام وحب الاستطلاع والعلم السيدة فوربس، فنزلت فى ميناء بنغازى فى آخر العام الماضى، وقابلت السيد السنوسى الكبير فأعطاها «كُتب توصية» سامحًا لها بارتياد الصحراء ودخول عواصم بلاده، فاجتازت مع قافلتها الصحراء الليبية الجافة الموحشة حتى بلغت واحة «الكفرة» موطن السنوسية ومقرها، وكان شقيق السيد إدريس قائمًا مقامه فى أثناء غيابه فى زيارته لإيطاليا فقدمت له السيدة «خديجة» كُتب التوصية من أخيه الأكبر فعنى بأمرها وأكرم وفادتها وأنزلها فى الواحة على الرحب والسعة، وكانت بذلك أول سيدة أجنبية بل أول أوروبى توغل إلى قلب الصحراء وزار مقام السنوسيين المجهول».
لكن الحقيقة كانت شيئا آخر: فى سنوات الدراسة بجامعة إكسفورد.. بدأت معالم شخصية الطالب المصرى أحمد حسنين تظهر بوضوح، بعد أن لمع اسمه بين زملائه الإنجليز وأصبح شخصية يشار إليها بالبنان. لتفوقه العلمى والرياضي.
لكن أكثر ما أعجب زملاؤه الإنجليز فيه كان ولاءه الشديد لمصر والشرق، وكان يبهر زملاءه وهو يتحدث عن سحر الشرق وغموضه.
وعن أسلوبه فى الحديث عن الشرق، قال زميله الذى أصبح فيما بعد سير والتر ماكنتون: «إنه يتحدث بطريقة تشبه.. التنويم المغناطيسي!».
ولم يكن سير والتر ماكنتون هو زميله وصديقه الإنجليزى الوحيد، لأن كثيرين من رجال السياسة البريطانية فيما بعد، كانوا زملاء دراسته فى جامعة أكسفورد، وأغلبهم أصبحوا أصدقاء له. بعد أن بهرتهم شخصيته الفريدة. وكانوا يرونه مثالًا لـ«الجنتلمان» الحقيقي.
وفى جامعة إكسفورد بدأت تتبلور شخصية أحمد حسنين رجل السياسة.
كان أهم درس تعلمه «حسنين» فى السياسة، أن يتظاهر أمام الغير بأنه لا يمارس السياسة.. لا يفهم فيها!.
■ ■ ■
وعاد «ابن بولاق» من لندن بعد أن أنهى تعليمه شخصًا آخر مختلفًا عن ذلك الشاب الطموح الذى سافر بحثًا عن العلم فى بلاد الإنجليز.
عاد أحمد حسنين إلى مصر عام ١٩٢٠.. عاد كما روى الكاتب الصحفى حافظ محمود: من جامعة إكسفورد شابًا رياضيًا. ينافس شباب الإنجليز فى قامته الرياضية، وتفوقه عليهم فى لعبة «الشيش» وغيرها من الرياضات.
خلال الأعوام الثلاثة التى تلت عودته إلى مصر. كان موعد أحمد حسنين مع الشهرة والمجد. بعد أن أصبح مستكشفًا رائدًا للصحراء، واكتشف واحتين مهمتين فى رحلات أشبه بالأسطورة تحدث عنها العالم، ونظم أمير الشعراء أحمد شوقى قصيدة يصف فيها أحمد حسنين بالمغامر والرحالة الذى اكتشف واحتى الفرافرة والكفرة فى الصحراء الغربية، وكطيار جرئ قام بأكثر من مغامرة للطيران من مصر إلى أوروبا.
وكانت هذه القصيدة تُدرس للتلاميذ المصريين فى كتب المطالعة!
■ ■ ■
فقد أغرم الشاب الطموح بالصحراء وعشق أسرارها..
وقام بأكثر من رحلة لاستكشاف مجاهلها..
وفى النهاية استحق بجدارة أن يكون «رجل الصحراء»!
وقد كتب أحمد حسنين كتابًا مثيرًا عن مغامراته فى الصحراء.
لكن المؤرخ د. يونان لبيب رزق تحدث عن رحلات أحمد حسنين فى الصحراء الغربية باستفاضة، وسجل أسرار وتفاصيل هذه الرحلات الجريئة.
وقال: الرحلة الأولى بدأها أحمد حسنين من بنى غازى فى نوفمبر ١٩٢١ متجهًا منها إلى «حديبة» ومنها إلى «أوجيلة» ثم «جالو» حتى وصل إلى واحة «الكفرة»، ومنها إلى مصر عن طريق «جغبوب» ثم سيوة فمرسى مطروح إلى الإسكندرية، بعد أن قطع فى الصحراء أكثر من ألف وستمائة ميل. وكانت هذه أقرب إلى «البروفة» للرحلة الثانية التى أكسبته شهرة واسعة.
وكان أحمد حسنين قد اصطحب معه فى هذه الرحلة رحالة إنجليزية حسناء اسمها «مسز روزيتا فوربس» بدلًا من شخص إنجليزى آخر، وكانت هى التى طلبت منه أن ترافقه فى رحلته.
لكن هذه المرأة الإنجليزية سببت له المتاعب فيما بعد!
فعلى الرغم من أنه أشاد بها بعد الرحلة وبقدرتها على تحمل مشاق السفر فى الصحراء. وأنها ارتدت الحجاب مثل النساء الشرقيات خلال الرحلة، إلا أن «روزيتا فوربس» صرحت بعد الرحلة بأن أحمد حسنين كان خلال هذه الرحلة مجرد سكرتير وتابع لها، وأنها وحدها كانت قائدة الرحلة!
وخلال الرحلة..
التقى أحمد حسنين بإدريس السنوسي. الذى تحفظ على وجود المرأة الإنجليزية فى الرحلة، وأعرب عن خشيته أن تسوء العلاقة بينه وبين بريطانيا إذا ما أصابها مكروه.
لكن أحمد حسنين أقنع السنوسى بأن وجود سيدة أوروبية فى البلاد الواقعة تحت سلطانه «سيكون دليلًا طيبًا على حسن إدارته، وإعلانًا جميلًا له فى أنحاء العالم عن بلاده».
لكن حسنين فوجئ بأن «مسز فوربس» بمجرد عودتها إلى بريطانيا، أصدرت كتابًا ذكرت فيه اسم أحمد حسنين باعتباره أجيرها ومترجمها أثناء الرحلة، وأنها كانت كل شيء. وصاحبة الفضل فى كل شيء!
والغريب أن الصحف الإنجليزية بدأت تردد هذا الكلام، لكن أحمد حسنين قابل هذا الجحود والنكران بأسلوب الرجل «الجنتلمان» الذى تميز به طوال عمره، وكان لديه الوثائق التى تثبت كذب المرأة الإنجليزية، لكنه لم يفتح فمه.. ولم يدافع عن نفسه.
وسأله بعض أصدقائه الإنجليز.. لماذا لا ترد على هذه المرأة وتفضح كذبها؟
فقال: إننى لا ألطم امرأة!
وقد حاول أمير الصحافة محمد التابعى فى كتابه الشهير «أسرار الساسة والسياسة» أن يفسر ما حدث، بأن «مسز فوربس» راودت أحمد حسنين عن نفسه لكنه تأبى رغم أنهما ينامان فى خيمة واحدة!
وقال أحمد حسنين للتابعي: كنت حريصًا على رضاء ربى ورحمته. فقد كنا فى صحراء مجهولة، وأسباب الهلاك تحيط بنا من كل جانب!
وفيما بعد..
وبعد أن قام أحمد حسنين برحلته الثانية وحيدًا واكتشف واحتى الكفرة والعوينات.. أشاد العالم أجمع باكتشافاته.. وحصل على الميدالية الذهبية للجمعية الجغرافية للاكتشافات وكرمته أمريكا وفرنسا بالميداليات الذهبية التى لم يحصل عليها من قبل رجل شرقى غيره.
وفى إحدى حفلات التكريم هذه.. نهضت «روزيتا فوربس» من بين الحضور لتهنئته وهى تبكى نادمة.
فتقدم منها أحمد حسنين «الجنتلمان» وصافحها، وقال لها: «ستكونين معى فى رحلتى الثالثة.. إن رحلتى وحدى فقدت كل البهجة!»
وصدرت الصحف الإنجليزية فى صباح اليوم التالى تشيد بالفارس المصرى الشرقي.. الذى أعطى الغرب درسًا فى الأخلاق والشهامة!
وكان عشق أحمد حسنين للصحراء لا حدود له..
فقد كتب يصف الصحراء قائلًا: «ما أجمل الصحراء وما أنعم ملمسها ما أيسر مسحها. وما ألذ العيش عليها.. الصحراء ذات الغلائل الصفراء اللا نهائية.. إنها صبية طيعة. ظبية ألوف. فرعها من ورد. جيدها من ذهب. جبينها من نور. النظرة إليها تسبى العينين. المشى عليها يأخذ بالألباب. حياتها موسيقى وشعر. سماؤها أغان وأحلام. الإقامة فيها كالإقامة فى روضة غناء. راضية قنوع، لا ترد قاصدًا، ولا تخيب ظنًا، إن صدت أقبلت وأن أقبلت لانت. ضعيفة ذات خفر. فى صوتها حنان، وفى وقتها لذة. فى ملاحتها فتنة، وفى إغرائها خمرة تسكر العاشقين».
هكذا وصف أحمد حسنين الصحراء وهى هادئة..
لكن ماذا إذا هبت الصحراء وعصفت برياحها القاسية؟
عن الصحراء الغاضبة كتب يقول: «ساء حال الرحالة. كل شيء تلف، أو تحطم، أو ضاع صناديقه كأنها ركام، عودة أصبحت لا تغنى شيئًا. سلاحه لا فائدة منه. أبله برح به الإعياء والضنى. رجاله أصبحوا كالأشباح. من فرط ما نالهم من مشقة الجوع النضب اليأس. دليله ضجر متبرم».
هكذا كادت الصحراء لرحالتنا ومكرت به. عبثت حتى بكراسة مذكراته. سلبته حتى غليون دخانه. ضنت عليه حتى بلذة الشبع. ما أشبهه بالقائد الذى خسر المعركة، فهو أوى إلى أنقاضه لا يدرى ماذا يصنع بها، يهوله مشهد الضحايا يروعه مشهد الخراب. يجزع لمقدم الغد. فى ذمته تبعة هذا جمعية. أما هو فرهينة ينتظر. أما الأسرع وهو الذل، وأما الفرار هو خبل. أما قتل النفس هو عار وخور!