الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

حفيدة أول أساتذة عميد الأدب العربي تتحدث لـ«البوابة نيوز»: طه حسين فارق الحياة مخاصمًا شيخه «غريب».. الجميع ظنوا أنه أعطانا أموالًا كثيرة مما عرّض المنزل للسطو

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لا يزال المشروع الثقافى الذى طرحه عميد الأدب العربي، والذى شكلت جهوده الفكرية أحد ملامح مشروع التنوير العربى فى القرن العشرين، إضافة إلى أن أعماله الأدبية والفكرية، بمثابة قاعدة يُمكن البناء عليها لتأسيس ذائقة ثقافية جديدة، كان يُمكن لها أن تتسع فى ظل الحالة الثورية التى عاشتها بعض البلدان العربية فى الأعوام السابقة؛ فلم تكن أفكار طه حسين منفصلة عن الواقع، بل متماسة معه، ونابعة من القضايا والإشكاليات التى يمر بها.

جاءت أفكار وزير المعارف العمومية الأسبق فى إطار تقدمى تهدف إلى نهضة حقيقية تأتى نتيجة لتراكم معرفى عميق، وثقافات متلاطمة. كان إيمانه يأتى عبر تجربة شخصية غاص فيها هو نفسه حتى أصبح موسوعة فى العلوم والفنون والآداب الفرنسية واللاتينية والعربية.

كان التجديد فى الفكر والرؤى السمة البارزة لتجربته الشاسعة والممتدة، لأكثر من ستين عامًا من الدراسة والبحث، والتنقيب، والكشف والرصد لأبعاد المكونات الذاتية التاريخية والاجتماعية والسياسية للثقافة العربية؛ لذا كان طه حسين يرى أن النهضة المعرفية الحقيقية تقوم على علاقة جدلية بين الإنسان ومحيطه الاجتماعي. للأسف لم تلق هذه التجربة العظيمة والخبرات الواسعة ما يُضاهيها من تقدير أو استفادة.


فى ١٤ نوفمبر ١٨٨٩، شهدت «عزبة الكيلو»، التى تقع على مسافة كيلومتر من مركز مغاغة، بمحافظة المنيا، الصرخات الأولى لمن كان قدره أن يصير عميدًا للأدب العربي. كان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا رقيق الحال فى شركة السكر، كان طه الابن السابع لأب يعول ثلاثة عشر ولدًا، لا يوجد الآن أى أثر يدل على مسقط رأس طه حسين سوى شارع رئيسى يحمل اسمه، وتمثال أقامته الوحدة المحلية فى مغاغة منذ سنوات؛ أما البيت الذى ولد فيه فقد أزيل ولم يعد هناك من يتذكر الكثير مما حكاه الآباء والأجداد عن أسرة طه حسين وطفولته.

«ولكن ذاكرةَ الأطفال ضعيفة، أو قل إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة، عندها يكون بعض هذه الحوادث واضحًا جليًا كأن لم يمضِ بينها وبين الوقتِ شيءٌ، ثم يُمحى منها بعضُها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد».

فى الجزء الأول من سيرته الذاتية «الأيام»، قدم طه حسين صورة مشوشة عن البيت، لم يتوقف عند وصف البيت بقدر ما كان يصف ما يقبع خارج البيت الذى تتوق نفسه لبلوغه، مثل المكان الذى عشقه وتروى فيه الأشعار والسيرة. كان الطفل ضعيف البصر تحيطه قيود كثيرة بسبب حالته الصحية، وهو الأمر الذى يحول بينه وبين الخروج؛ حتى فقد بصره فى السادسة من عمره نتيجة الفقر والجهل.

كانت العقلية المصرية فى ذلك الوقت تؤمن بأن الطفل إذا فقد بصره فلا بد أن يصير شيخًا، يقضى حياته فى تلاوة آيات الذكر الحكيم؛ وبينما كان القرن التاسع عشر يلفظ أنفاسه الأخيرة لتتصاعد صرخات ميلاد القرن العشرين، كان «الشيخ طه» -كما أطلق عليه أهل قريته منذ الطفولة- يتحسس طريقه نحو كُتّاب الشيخ محمد جاد الرب، والذى اشتهر بـ«الشيخ غريب»، الرجل الذى لقّنه أولى آيات القرآن الكريم فى الكُتّاب الُملحق بمنزله الطينى البسيط فى عزبة «الكيلو». كانت تعاليم الشيخ غريب هى الطريق الذى عبر منه عميد الأدب العربى إلى السوربون فيما بعد.

«ولكنه لا يعرف كيف حفظ القرآن.. ولا يذكر كيف بدأ ولا كيف أعاده.. ثم لا يذكر متى بدأ يسعى إلى الكُتـّاب ليرى نفسه فى ضحى يوم جالسًا على الأرض بين يديّ سيدنا ومن حوله طائفة من النعال المرقعة، وكان سيدنا جالسًا على دكــة من الخشب. كان منظر سيدنا عجبًا فى طريقه إلى الكتاب، صباحًا ومساءً، كان ضخمًا بادنًا وكان يبسط ذراعيه على كتفى رفيقيه يضربون الأرض بأقدامهم ضربًا. وكم كان لسيدنا على الأسرة من حقوق! وحقوق سيدنا على الأسرة كانت تتمثل دائمًا فى الطعام والشراب والثياب والمال. فإذا ختم صاحبنا القرآن فهناك عشوة دسمة ثم جبـّة وقفطان وزوج من الأحذية وطربوش مغربى وطاقية وفوق هذا كله جنيه أحمر».


تناول طه حسين فى «الأيام» سيرة تختلط فيها حكاية الإنسان بالمكان، فيسرد جزءًا يسيرًا من طفولته فى قريته وحكايات الشقاوة مع الشيخ الذى علّمه فى الكتّاب، لينتقل من ثمّ إلى حياة جديدة فى الأزهر؛ حيث كان أمل أبيه كبيرًا فى أن يراه عالمًا يعتكف على أحد أعمدة الصرح الأزهرى مدرّسًا طلابًا ومسئولًا عن إعداد أجيال جديدة.

بعد أكثر من مائة عام، سارت محررة «البوابة» فى الطرقات نفسها التى كان يتحسسها الشيخ طه، والتى اختفت من على جانبيها المنازل الطينية العامرة وحلّت بدلًا منها المنازل المبنية بالطوب الأحمر. المنزل البسيط الذى كان صوت الشيخ طه يصدح فيه بتعاليم التلاوة، صار منزلًا من أربعة طوابق، أمّا الكُتّاب فأصبح مخزنًا يستخدمه من قام بشراء المنزل بعد عشرات الأعوام، دون أن يعرف الدور الذى لعبته هذه الجدران فى تاريخ الأدب العربي.

لم يبق من أحفاد الشيخ غريب سوى «زكية»، الوحيدة المتبقية من سلالة محمود الابن الأكبر للشيخ الذى لم يُنجب سواه، ويوسف الذى أنجب ثلاثة أبناء وبنتين؛ جميعهم رحلوا عن عالمنا، لكن زكية -التى أوشكت على إتمام عِقدها الثامن- لا تزال تتذكر الكثير عن جدها وحكايته مع الشيخ طه.

الحاجة زكية، كما يُناديها أهل العزبة، تحكى أنها وعت الدنيا لتجد منزل الجد قد ارتفع وصار مكوّنًا من أربعة طوابق «كان رجلًا محبوبًا وثق فيه جميع من فى العزبة والمناطق حولها، وأرسلوا إليه أولادهم لينهلوا من علمه. كان يأتيه كثير من الرجال المُقبلين على العلم ومعهم عشرات الأطفال من كل مكان ومن جميع الأعمار، حتى من بدأوا التدرج فى المراحل الدراسية»، تقول هذا وتضيف «كان الشيخ غريب يمتلك من العلم الوفير ما يفيض به على طلابه. كان فى المقام الأول حاملًا لكتاب الله، وهو الهدف الأساسى الذى أُرسل إليه طه حسين من أجله، فقد جعله الشيخ يحفظ القرآن الكريم كاملًا وفى فترة قياسية».

استمرت زكية فى روايتها وهى تُشير من حين لآخر إلى باب المخزن المُغلق الذى كان مهد العلم للطفل الضرير «عندما كان طه حسين فى الثامنة من عمره، وكان قد فقد بصره قبلها بأربع سنوات، كانت لدى عائلته منزل فى مغاغة، وكان له أخت وأخ يصغرانه فى العمر»، فى تلك الفترة الُمبكرة من القرن العشرين انتشر وباء الكوليرا بشكل مُفاجئ، وهاجم كافة محافظات مصر «ولكن الوضع فى الصعيد كان أشد سوءًا، فقرر أهل طه حسين الهروب من المرض بالسفر إلى القاهرة. خرجوا حاملين الكثير من الأمتعة ومشغولين بالترحال والأطفال الأصغر سنًا. لهذا تاه الطفل الضرير من بين أبويه اللذين تركاه على رصيف محطة القطار المُتهالكة بدورها».


«كان صيف ١٩٠٢ منكرًا وكان وباء الكوليرا قد هبط مصر، ففتك بأهلها فتكًا ذريعًا، وكان لهذه الأسرة شاب فى الثامنة عشرة، كان أنجب أبناء الأسرة، أقبل ذات يوم باسمًا فلاطف أمه وداعبها، وقال: لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة، وقد أخذت وطأة الوباء تخف، ولكنه شكى من بعض الغثيان، كانت الدار هادئة مغرقة فى النوم، ولكن صيحة غريبة ملأت هذا الجوّ الهادئ، فهبّ القوم جميعًا. وكان مصدر الصوت الفتى.. إذن فقد أصيب الشاب ووجد الوباء طريقه إلى الدار.. جاء الطبيب ولكنه انصرف يائسًا. واضطرب الفتى قليلًا ومرت فى جسمه رعدة تبعها سكون الموت»..

فجأة أصبح الطفل طه حسين وحيدًا فى مغاغة «لم يكن يعرف أحدًا ولا له صلة له سوى بالشيخ غريب. طلب من أحد المارة أن يوصّله إلى الشيخ غريب شيخ الكتاب الوحيد حينها؛ وبالفعل ذهب إليه ليفتح له باب منزله ويحتضنه قائلًا له: «أنا معك ولن أتركك وحيدًا يا طه». تروى زكية أن طه عاش فى كنف شيخه إلى أن أصبح يافعًا وصار فى سن الجامعة «عندها ذهب إلى المنيا، ثم قرر الرحيل إلى القاهرة؛ ومنذ ذلك الوقت انقطعت جميع صلاته بشيخه».

أعوام طويلة مرّت فى نهر الزمن، كان خلالها الشيخ طه قد سافر إلى فرنسا وعاد أستاذًا جامعيًا مرموقًا وقد حصل على لقبه الشهير وعمادة الأدب العربى الذى صار واحدًا من أساطينه. هنا كان وزير المعارف الأسبق قد تذّكر الشيخ الذى حافظ عليه من الضياع فى طفولته، عندها أرسل سيارة فارهة إلى منزل الشيخ غريب مع السائق الذى حمل له رسالة مُفادها بأن الدكتور طه يرغب فى أن يصطحب الشيخ معه إلى القاهرة «تعال عندى لكى أطمئن عليك» حسبما تتذكر الحفيدة التى صارت الآن فى حال يُرثى لها وتعمل فى بيع الخضراوات، تؤكد أن جدها امتلأ بالغضب والسخط من طريقة تلميذه السابق «قال لسائقه: أنا من علمته وصار شابًا على يديَّ، فمن الأجدر بأن يذهب إلى الآخر؟!». لم يستطع عميد الأدب العربى أن يُصالح شيخه، فقد رحل عن عالمنا بعد تلك الواقعة بسبعة أيام.


تشكو الحاجة زكية من الحال الذى وصلت إليه رغم أن جدها كان أول من ساهم فى صناعة أسطورة طه حسين، والذى وصفته هو الآخر بأنه «كان ناكرًا للجميل»، حسب قولها، وأضافت «لولا جدى ما كان تعلم شيئًا ولا حفظ القرآن ولا التحق بمراحل التعليم كافة. الجميع ظنوا أنه أعطانا أموالًا كثيرة، ما عرّض المنزل للسطو أكثر من مرة. أحزن بشدة لتخلى طه حسين عنا ونكرانه للجميل والمعروف والرعاية التى قدمهما الشيخ غريب له».

لم تكن الحاجة زكية وحدها التى تذكر طه حسين وحياته فى العزبة وخارجها. كثيرون يعلمون قصته وحياته وكيفية سفره؛ بل ويتذكرون كذلك الشيخ غريب، فمنهم من عاصره وتتلمذ على يده ونال من علمه الكثير.

يتحدث فراج الألفي، وهو معلم بوزارة التربية والتعليم وأحد مثقفى القرية المهتمين بنشأة طه حسين، عن الشيخ غريب، يقول: «تتلمذ على يده الكثير من أبناء مركز مغاغة، فقد كان متفردًا بالكثير من العلم فى ذاك الوقت، حسب تعبيره، مُشيرًا إلى أن الشيخ غريب علّم عميد الأدب العربى مواجهة الفقر والجهل»، وبالفعل شنّ الدكتور طه العديد من المعارك فى سبيل التنوير، واحترام العقل والفكر، وتحرير المرأة، كانت أول هذه المعارك فى عام ١٩٢٦ عندما أصدر كتاب «الشعر الجاهلي»، الذى كان مثيرًا للجدل إلى حدٍ كبير فى كلٍ من الدوائر السياسية والأدبية، وأثار الكثير من الجدال الذى تصدر عناوين الصحف آنذاك بين مؤيدين ومعارضين.