الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

البرازيل ليست كرة القدم.. تجربة اجتماعية للتعايش السلمي واحتضان الأقليات.. 31% من الشعب أفريقي الأصل.. والإسلام ينتشر في معظم المدن

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رغم أن جميع الشعوب العربية، وليس فى مصر فقط، تعرف دولة البرازيل، فإن العلاقة معها تقف عند حدود كرة القدم، التى تعد أهم سلعة تصدرها تلك الدولة اللاتينية مترامية الأطراف إلى العالم، وكيف لا ولاعبو كرة القدم البرازيليين، من أعظم من داعبت أقدامهم تلك الساحرة المستديرة التى تلهب قلوب ملايين العشاق فى كل بقاع الدنيا.
ويعرف البرازيليون أيضًا بأنهم راقصو السامبا، مستمدين من هذه الرقصة شهرة عالمية، تآزرت مع الفن الراقى الذى يقدمه أبناؤها فى كرة القدم، لترسم لوحة فنية مبهرة، لهذه الدولة التى يعيش فيها أكثر من 169 مليون نسمة، لكن ما يجب أن نعرفه، هو أن هذا ليس كل شيء عن البرازيل.
«البوابة نيوز» ذهبت فى رحلة لاستكشاف بلاد السامبا، وسر أغوار مجتمعها، الذى يتميز بصفات غير موجودة فى معظم دول العالم، فالمجتمع البرازيلى، يتسم بقدرة فائقة على التعايش السلمى، واحتضان الأقليات، فى تجربة رائعة، ربما لا وجود لها بهذا العمق فى أى مكان آخر. وفى حلقات متتالية، ترصد «البوابة نيوز»، خلال رحلتها فى مدن وولايات البرازيل، المترامية، ملامح هذا المجتمع المجهول بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط، ونجيب خلال حلقاتنا عن سلسلة طويلة من الأسئلة، التى تمكننا من رسم صورة واضحة لتلك الدولة، التى يمثل المواطنون من ذوى الأصول الأفريقية أكثر من 31 % من سكانها، كما يعيش المسلمون فيها تجربة تستحق أن نعرف تفاصيلها فى مصر.

بلد عريق
أول انطباع تأخذه عند زيارة البرازيل، هو أنك أمام بلد عريق، وإن عصفت به المحن الاقتصادية، حتى بدا الفقر، ظاهرًا فى الكثير من جوانب الحياة، لكن رغم ذلك فإن ما يتمتع به الشعب من عمق ثقافى، جعله قادرًا على تجاوز هذه المحن والأزمات بسهولة.
لا يهتم الكثير من البرازيليين بالسياسة أو يمكن أن نقول إن المهتمين بالشأن السياسى، ليسوا منتشرين فى كل مكان، فالبرازيليون يعشقون كرة القدم قبل أى شيء آخر.
ويعود تسمية البرازيل بهذا الاسم، إلى فترة خضوعها لحكم الإمبراطورية البرتغالية، التى منحتها اللغة، فصارت البرتغالية هى اللسان الرسمى لتلك الدولة اللاتينية، كما تم اعتماد الاسم من شجرة اشتهرت بها تلك المنطقة من العالم، وهى ذات لون أحمر، مميز، وتعرف لدى الأوروبيين باسم «برازيل»، الذين كانوا يستوردونها من أمريكا اللاتينية، والبرازيل تحديدًا، لتصنيع ألوان طلاء الجدران.
وتحتل البرازيل وسط وشمال شرق قارة أمريكا الجنوبية، ويحدها شمالا كولومبيا، وفنزويلا، وجويانا، وسورينام، ومن الغرب بيرو، وبوليفيا، وباراجواى، وجنوبا الأرجنتين، وأوروجواى، وشرقا المحيط الأطلسى، وتبلغ مساحتها الإجمالية نحو ٨.٥ مليون كيلومتر مربع.
تعايش سلمى
يعيش سكان البرازيل، فى حالة فريدة من التعايش السلمى، رغم انحدارهم من ثلاث عرقيات مختلفة، فأصولهم أوروبية، وأفريقية، بالإضافة إلى السكان الأصليين للأمريكتين، وهم الهنود الحمر.
ويشكل ذوو الأصول الأفريقية ٣١٪ من السكان، والأوروبيون ٥٤٪، وباقى المجتمع من الأعراق الأخرى. واعتاد المجتمع البرازيلى على احتضان الأقليات، وهو ما منح المهاجرين من معظم دول العالم، وبخاصة المسلمون، فرصة كبيرة للحياة على الأراضى البرازيلية، وهو ما بدا واضحًا جدًا، فى الأعداد الكبيرة منهم التى تعيش فى البرازيل بكل حرية، وانتشارهم فى معظم الولايات هناك.

المسلمون فى البرازيل
بدأ زحف الإسلام نحو البرازيل، بالتزامن مع اكتشاف قارة أمريكا الجنوبية بالكامل، حيث رافق عدد من المسلمين مكتشف القارة، وفق تأكيد المؤرخ البرازيلى الشهير «جواكين هيبرو».
وذكر «هيبرو»، فى محاضرة ألقاها عام ١٩٥٨م، ونشرتها الصحف البرازيلية وقتها، أن العرب المسلمين زاروا البلاد، واكتشفوها قبل اكتشاف البرتغاليين لها عام ١٥٠٠م، وأكد أن قدوم البرتغاليين إلى البرازيل كان بمساعدة البحارة المسلمين.
كما وصل إلى البرازيل أيضًا بعض المسلمين الأندلسيين، الفارين من اضطهاد محاكم التفتيش فى إسبانيا، ومع الوقت كثرت الهجرة الإسلامية إلى البرازيل، فأقيمت هناك محاكم تفتيش، على غرار المحاكم التى عقدت للمسلمين المهزومين فى إسبانيا، وصدرت أحكام بإعدام عدد كبير من المسلمين حرقا. وتشير الوثائق التاريخية، المحفوظة فى المتاحف البرازيلية، أن أكثرية المنحدرين من الأفارقة الذين جيء بهم إلى البرازيل، كعبيد، يعودون إلى جذور إسلامية، وأنهم كانوا يجيدون اللغة العربية.
ووفقًا للوثائق أيضًا، وصلت أفواج هؤلاء العبيد لأول مرة، إلى البرازيل فى عام ١٥٣، ووصل عددهم بمرور الوقت، وتكرار الرحلات إلى البرازيل إلى ١٤ ألف مسلم، ثم إلى ٥٧ ألفًا، وبعدها إلى ٦٤٢ ألف مسلم زنجى. ويقول مؤرخ يدعى «فريري»، إن المسلمين السود، يشكلون عنصرًا نشيطًا ومبدعًا، وكانوا من أنبل من حضر إلى البرازيل، إلا أنهم اعتبروا عبيدًا، وتم تشغيلهم كحيوانات جر، أو عمال زراعة.
شركاء الكفاح
ولعل من أبرز الإشارات على نبل المسلمين الذين عاشوا فى البرازيل، أنهم شاركوا فى كفاح الشعب، ضد الاحتلال البرتغالى، وقادوا ثورات تحررية، كان أهمها تجمع للثوار فى مدينة «بالميرس» بشمال البرازيل، فى القرن السابع عشر، ولم تستطع السلطات البرتغالية مواجهتهم، إلا بالاستعانة برجال الحدود، من مقاطعة «ساوباولو»، وتم سحق هذه الثورات بمنتهى الوحشية والقسوة، حيث أجبرهم البرتغاليون على ترك دينهم وتغيير أسمائهم، إلا أن ثورات المسلمين تكررت.
وفى شهر مايو من عام ١٨٠٧م، خطط الأئمة المسلمون للثورة، اعتراضا على الظلم، بعد أن حولوا بيوتهم إلى مساجد لشحن الثوار، وتكديس السلاح، وكان للثورة هدف هو قتل السادة البيض، المستعبدين للأفارقة، والهروب فى السفن عبر ميناء سلفادور، عائدين لأوطانهم الأصلية، لكن حاكم «باهيا»، كان يدس عملاءه بين الثوار فسربوا المعلومات المطلوبة قبل اشتعال الثورة، وتم اعتقال قادة الثورة، وصدرت أحكام بالإعدام والجَلد والسجن ضد المشاركين فى التمرد. وفى يناير من العام ١٨٠٩م، تكررت الثورة، وأوقع الثوار عشرات القتلى والجرحى من الجنود البيض، بعد أن استولوا على مستودع للسلاح فى منطقة ريفية فى «باهيا»، لكن السلطات تعقبت الثوار، وقتلت وأسرت المئات منهم، ثم تكررت عشرات حوادث التمرد، التى انخرط فيها الأفارقة المسلمون، من قبائل، قبل أن ينتهى كل ذلك فى عام ١٨٣٠م، بقمع فى منتهى الوحشية.
هجرات العصر الحديث
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، بدأت طلائع المهاجرين الجدد تصل إلى البرازيل، فى موجة جديدة من الهجرة الإسلامية إلى هناك، لكن هذه المرة كان معظم المهاجرين من أبناء الشام، وفلسطين، ولبنان، أملًا فى العمل والكسب، وزادت الهجرات فى أعقاب الحرب العالمية الثانية.
أما حاليًا فيشكل المسلمون نحو ٥٪ من سكان البرازيل، وأكثر وجود لهم فى ولايات ساوباولو، وريو دى جانيرو، وبارانا، وريوجراندى دى سول، إلا أنه لا توجد إحصاءات دقيقة بأعدادهم، وإن قدرت بعض المصادر عددهم بمليونى شخص.

ساوباولو.. معقل إسلامى
يقيم فى مقاطعة ساوباولو، البرازيلية، ٧٠٠ ألف مسلم، ينتشرون فى مراكزها وضواحيها، ويعمل عدد كبير منهم فى التجارة، وهو ما يتوافق مع طبيعة مدينة ساوباولو التجارية.
وكان أول ظهور لمنظمات المجتمع المدنى العاملة فى البرازيل الجمعية الخيرية فى ساوباولو، التى تعد أقدم جمعية إسلامية فى البلاد، ويطلق عليها حاليا لقب «أم الجمعيات»، حيث تأسست فى ١٩٢٦م، وضمت أول لجنة من المهاجرين المسلمين، واستهدفت بناء المساجد، إلا أن جهودها لم تسفر عن نتيجة إلا فى عام ١٩٥٧، كما أطلقت صحيفة اسمها «النشرة» فى عام ١٩٣٣، ثم صحيفة أخرى باسم «الذكرى»، بعدها بأربع سنوات، ثم صحيفة سميت «الرسالة»، ورابعة باسم «العروبة».
وبحلول مطلع السبعينيات، من القرن الماضى، أسست الجمعية أول مدرسة إسلامية عربية، هى مدرسة «فيلا كارون»، كما استطاعت الجمعية أن تحصل على قطعة أرض واسعة، وتجهيزها كمقابر شرعية لدفن موتى المسلمين، وتبعد ٢٥ كلم عن مسجد ساوباولو. وفى تلك الفترة أيضًا، احتضنت البرازيل، أول مؤتمر إسلامى، ونظمته وزارة الأوقاف المصرية، بالتعاون مع الأزهر الشريف.
ويعد الدكتور عبدالله عبدالشكور، أول مدرس فى أكبر جامعات ساوباولو، واشترك مع الدكتور حسين الزغبى، فى تعليم اللغة العربية لأبناء الجالية المسلمة.
الأفارقة الأفاضل
ويعد العبيد الأفارقة، من أصحاب الفضل على البرازيل، فهم أول من جلب لهم بعض الزراعات التى اشتهروا بها فيما بعد، فعلى أيدى الأفارقة عرف البرازيليون قصب السكر، والبن، والتبغ، والقطن، والحبوب، بل لم يعرفوا أدوات الزراعية الحديديَّة، إلا على أيدى الأفارقة. المثير أن البرتغاليين أنفسهم، هم أول من اعترف بدور الأفارقة الأفاضل، مؤكدين أنه لولا هؤلاء الأفارقة ما جنى البرتغاليون ثمرة واحدة من البرازيل.
علماء الإسلام الأفارقة.. أيادٍ بيضاء
لعب العلماء الأفارقة دورًا بارزًا، وكانت لهم أيادٍ بيضاء، على المجتمع البرازيلى، حيث أسهموا فى الارتقاء بعلاقة العبيد بالمجتمع هناك، فصنعوا منهم أبطالًا نبلاء، رغم الظروف القاسية التى كانوا يعيشون فيها. وخاض هؤلاء العلماء رحلة طويلة وشاقة، لتعليم العبيد شعائر الإسلام، حفاظًا على دينهم، ونجح مسعاهم فى الحفاظ على العقيدة الإسلاميَّة لدى العبيد، مما مكنهم أن يصبحوا إضافة للمجتمع البرازيلى، وليسوا عبئًا أو سببًا فى اضطرابه، كما كان يحدث فى معظم الأماكن الأخرى من العالم، الذى اعتمد على العبيد. ويقول المؤرخ الدكتور على الكتانى، فى معرض حديثه عن دور رجال الإسلام فى البرازيل: «صادف أن كان من بين هؤلاء علماء فى الدين، فنجحوا فى الحفاظ على علمهم، وأسسوا جاليات قوية ومنظمة، بين المستعبدين فى ولايات باهيا، وريودى جانيرو، وسان لويس دو مرانيون، ونجحوا فى إدخال كثير من العبيد الآخرين فى الإسلام، وكانت لهم المدارس الإسلامية، ومساجد، استفادوا منها، وكان يسميهم البرتغاليون بالمعلّمين».

برازيل اليوم
يعيش المسلمون فى البرازيل، اليوم، واقعًا مغايرًا، حيث يتوزعون فى مختلف الولايات البرازيلية، ويمارسون شعائرهم بحرية، وتسامح وسط حالة من التعايش السلمى، واحتضان الأقليات.
وتنتشر فى أنحاء البرازيل نحو ٨٠ مؤسسة، و١١٠ مساجد، فيما يبلغ عدد الدعاة ٦٥ داعية، ورغم الحرية التى يتمتعون بها، فإن هذا العدد يبدو ضئيلًا وعاجزًا عن خدمة مليونى مسلم فى مختلف أنحاء البلاد. ويعد المجلس الأعلى للأئمة، والشئون الإسلامية فى البرازيل، من أهم التجمعات التى تضم علماء وشيوخ ودعاة أهل السنة، من الدعاة المحليين أو المبتعثين من وزارات الأوقاف والشئون الإسلامية. وهناك المكتب الإقليمى للندوة فى أمريكا اللاتينية، الذى أنشئ فى عام ٢٠٠١، ومقره بمدينة ساو باولو، وكذلك رابطة الشباب المسلم فى البرازيل، التى تأسست عام ١٩٩٥م فى ضاحية براس بمدينة ساوباولو أيضًا. وتشير حالة التنامى المطردة فى النشاط الإسلامى بالبرازيل، إلى أن معدل انتشار الإسلام هناك فى تصاعد مستمر، وإن كان لا يزال بحاجة إلى مزيد من اهتمام المؤسسات الإسلامية الكبرى فى العالم، على رأسها الأزهر الشريف.
فى عام ١٩٧٩، وبرعاية وإشراف السفارات العربية والإسلامية بمدينة برازيليا وبمباركة الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامى، ووزارات الأوقاف والشئون الإسلامية فى أكثر من بلد إسلامى، ظهر المجلس الأعلى للأئمة، والشئون الإسلامية فى البرازيل «فمبراس» إلى النور، بهدف تعزيز وتوحيد مختلف المؤسسات الإسلامية فى البرازيل فى ذلك الوقت. وأثمرت جهود الاتحاد والتواصل بين المؤسسات، عن بناء ٣٧ مسجدًا، بدعم من السعودية، وغيرها من دول العالم الإسلامى، لتسهيل ممارسة الشعائر الإسلامية، وتشجيع المعتنقين الجدد، وتعزيز المشاركة الاجتماعية مع البرازيليين، واعتبر هذا البناء طفرة كبيرة فى مسيرة العمل الإسلامى فى البرازيل حيث ارتفع صوت نداء التوحيد فى كل الولايات البرازيلية. بقى أن نشير إلى أن هذه المعلومات ليست سوى بداية، لسلسلة من الحلقات التى نلقى فيها الضوء على جوانب الحياة فى تلك الدولة المهمة، للنقل القارئ المصرى والعربى، صورة حية عما يجرى فى مختلف أنحاء العالم، الذى يؤثر فينا، ويتأثر بنا، سواء على الأصعدة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو حتى الدينية.. وإلى حلقة مقبلة.
تمرد مالى
لم يهدأ الوضع أكثر من خمس سنوات، لتندلع فى ١٨٣٥م، ثورة عارمة جديدة للعبيد فى مدينة «سلفادور»، عاصمة ولاية «باهيا»، وهى أشهر ثورة فى تاريخ البرازيل، وعرفت باسم «تمرد مالي»، أي: «تمرد المسلمين الأفارقة»، الذين بدأوا فى جمع الأموال وتخزين الأسلحة، ووضع الخطط باللغة العربية، وكان العبيد بلغوا، فى ذلك الوقت من القوة، والكثرة درجة كبيرة، وقادهم الشيوخ القابعون فى الخفاء، وتعاون فيها أبناء الهاوسة مع الفولا، واليوروبا، والناغو، والأيوه والكيجة، وهى قبائل كانت موجودة فى ذلك الوقت.