فى 9 يونيو 2014، عرف العالم أن هناك منظمة تطلق على نفسها اسم «الدولة الإسلامية» أو «داعش» - اختصار باللغة العربية لاسم الدولة الإسلامية فى العراق والشام- الذى استطاع الاستيلاء، دون قتال، على الموصل ثانى أهم المدن العراقية، ونجح «داعش» بوضوح كبير فى شراء قيادات الجيش المسئولة عن الدفاع عن المدينة، واستطاعت أن تسيطر على مخازن مهمة للسلاح، وكذلك فى الاستيلاء على الاحتياطيات الكبيرة فى البنك الوطنى العراقى. بعد 20 يومًا، أى فى 29 يونيو، أعلنت المنظمة المسلحة «الخلافة»، وقامت من خلالها بتأسيس نموذج دولة يتم فيها إلغاء الضرائب وتطبيق الشريعة.
ماذا تعنى الخلافة؟ الخلافة تعتبر كناية عن الدولة والشعب المسلم الذى يعيش
تحت سلطة «الخليفة»، وتعنى هذه الكلمة حرفيًّا باللغة العربية الشخص الذى
يخلف النبى محمد، وتعنى كلمة الخلافة إذن، النظام السياسى ذاته، وتمثل
أيضًا فى الوقت نفسه، الفترة التى يتم خلالها تطبيق هذا النظام، ومن هنا،
نجد العديد من الخلفاء تم تنصيبهم منذ بداية الإسلام، وفى أعقاب العديد من
حروب الخلافة التى اندلعت بين العديد من الأشخاص الذين تقدموا لتَسَلّم هذا
الإرث من بعد النبى.
وبعد نهاية حكم الخلفاء الراشدين الأربعة، ظهرت
أهم الخلافات التالية: الخلافة الأموية فى دمشق (المنفية فى قرطبة)،
والخلافة العباسية فى بغداد، والخلافة الفاطمية فى القاهرة ثم الخلافة
العثمانية.
وفى الأدب الداعشى الذى يمكن الوصول إليه، نجد أن خطوط
أيديولوجية المنظمة المسلحة تستمد مرجعيتها من هؤلاء الخلفاء الأربعة، دون
أدنى تمييز، وتؤكد «عظمتهم» و«خلودهم»، ويظهر هنا أولى هذه الأيديولوجيات
المؤسسة: ألا وهى العودة لهذا العصر الذهبى الخالد، تلك العودة التى يتم من
خلالها وقف الوقت، بل وإلغاؤه.
أما الديناميكية الثانية، فتقوم على
التوحيد والانصهار الذى لا يمكن حلّه بين الدين والسياسة، بين الروحانى
والعقلى، بين العقيدة والعقل، وأخيرًا، فإن البعد الثالث لذلك «المفهوم أو
تلك الرؤية للعالم»، التى تعتبر نظرةً كاملةً بل شموليةً للعالم، يشمل
تقديم الخلافة على أنها نظام يتم تطبيقه على الجنس البشرى، ليلغى أى فوارق
بين طبيعة «الخلافة» والتاريخ، وبهذه العولمة التى نشأت قبل بدء هذا
الخطاب، نجد أن الحلقات قد اكتملت؛ الأمر الذى يؤدى بنا إلى نقطة البداية،
وبدء الوقت الملغى للخلود.
وقبل تفكيك هذه الآلة الوحشية، تجدر الإشارة
إلى بعض النقاط التاريخية على سبيل التذكرة، وكذلك الإشارة إلى ظاهرة
الغباء الطائفى، وهذه الظاهرة توضح أن أيديولوجية الخلافة ليست خاصةً بها
فقط، بل إن كثيرًا من آرائها السفسطائية تسيطر كذلك على بعض أيديولوجياتنا
الغربية.
الوقت هو المفهوم ذاته الموجود هنا
إن أيديولوجية الخلافة
لا يمكن أن تنفصل عن بداية الإسلام، الذى يمكن اعتباره «البداية» الوحيدة
الممكنة، وتتجلى هذه الحقيقة المؤسسة فى وقت الأزمات الحادة التى ظهرت فيها
المواجهات بين إمبراطوريتين كانتا تتقاسمان العالم؛ الإمبراطورية
البيزنطية المسيحية وإمبراطورية الفرس، وما بين هذه وتلك، كان يتعايش
بينهما اليهود والعرب والوثنيون، وهؤلاء كان يحتقرهم اليهود وأيضًا
المسيحيون. وفى هذه الأجواء فى مكة، حيث كان يُعبد الحجر الأحمر، ولد محمد
عام ٥٧٠.
بإعادة النظر لإحدى المفردات «الهيجلية»، نسبة إلى الفيلسوف
الألمانى الشهير هيجل والتى تقول: «الوقت هو المفهوم ذاته الموجود هنا،
ويتمثل فى الوعى كحدس فارغ»، وهذا يعنى أن تجرده يجب أن يتشكل ويتجسد
«بالمغامرات» التى ينسجها العقل، والتى تفهم كمجتمع الأفراد، وفى هذا
الفراغ المجرد من الوقت الأصلى الآدمى على الأصح، سنرى أنه تم نسج البطانة
نفسها لذلك الأمر الذى يتم تقديمه على أنه لا يمكن فصله: التاريخ والسيرة
الذاتية لشخص، والمغامرة الهائلة لبطل مستلهم، ويذكر ماكسيم رودينسون:
«محمد يفكر.. يتحرك ويعيش أمامنا.. حاضرًا بصورة مذهلة.. حتى نتخيله فى
صورته ومظهره الجسدى، فيتراءى كرجل قوى.. مليء بالطاقة.. شجاع ومتطوع،
ويظهر كشخص ذى طابع عاطفى.. قلق.. حماسى.. مليء بالتطلعات الجامحة إلى
المستحيل».
ويفتح مارتن هايدجر مؤسسته الكبيرة لإعادة تشكيل
الميتافيزيقية الغربية عن طريق هذه المسألة: «لماذا يوجد هناك أمر وليس لا
شيء؟»، ومثل ديكارت وقساوسة الكنيسة والأفلاطونيين الجُدد من قبله، فإن
الأمر يتعلق بإيجاد الأصول الأولى للكلمة.. ويطالب هايدجر بتلك المسألة؛
حتى يؤسس وجود كلمات وبدايات مثل الأشجار والنمل، ومحمد يدعو بالكلمة لينشئ
بها سلطة.
وعندما غادر محمد مكة -حيث وُلد- والتى رفضته كنبى (لا
كرامة لنبى فى وطنه)؛ لأن أهلها ظلوا متعلقين بكفرهم، وعندما ذهب للاستقرار
فى المدينة المنورة، ليشيد فيها مدينة الله.
ويعتبر العناد أحد الأبعاد
المتفردة لهذه الرواية، وهو الأمر الذى عايشه النبى عند التصالح مع
اليهود؛ أليس هو المفسر الجديد والمتحدث بصوت رب إبراهيم؟ واستطاع فيما بعد
أن يتجاوز هذه العقبة عندما أعلن أنه الوريث الحقيقى لإبراهيم، وعندما
عاند اليهود ورفضوا أن يظلوا فى منتصف الطريق!
من الخمير الحمر إلى طالبان
هذه
الأسطورة التى تم رفعها إلى مقام الخرافات الأصلية، إنما تحول التاريخ إلى
طبيعة، لقد حدث نوع من «الشعوذة»، هذا ما يذكره الباحث رولاند بارتز،
«الذى قام بإعادة الحقيقى وتفريغه من التاريخ ثم قام بإعادة ملئه من
الطبيعة، وهو ما سحب من الأشياء معناها البشرى حتى يجعل معناها نوعًا من
«اللامعنى البشري»؛ فوظيفة الخرافة هى أن تقوم بتفريغ الحقيقة: هى حرفيًّا
تدفق «غير من قطع»، بل «نزيف» أو هى عبارة عن تبخر وباختصار «غياب محسوس».
ومن
هذا المنطلق، فكل شيء ممكن خاصة ما لم يخطر على بال أحد، إيقاف الزمن
بإنشاء نوع جديد من البدايات المطلقة، يكون معناها العميق هو إنكار بل
تدمير كل ما سبق.
بعد سنوات عدة من الحرب الأهلية، ووضع ما يُسمى
بالنظام السياسى لكامبوتشيا الديمقراطية بين عامى ١٩٧٥ و١٩٧٩، قام الخمير
الحمر بوضع ديكتاتورية شديدة العنف، فى بيئة مكتفية بذاتها تمامًا لخلق
مجتمع شيوعى بلا طبقات، ويتم تطهيره من جميع آثار الرأسمالية الاستعمارية؛
ومن أجل ذلك قام الخمير الحمر بإفراغ كل المدن من سكانها، وأجبروهم على
العمل فى مزارع الأرز فى ظروف تشبه العبودية، ولفرض تلك البداية من تاريخ
الإنسان الجديد، قام الخمير الحمر بتدمير كل آثار العمارة والتراث بشكل
منهجى، وبشكل أوسع، كل الثقافات التى سبقت نصرهم العسكرى.
وبما أن المال
-مهما حدث- يبقى الشرط الأساسى للبقاء، فإن الخمير الحمر فككوا بالإزميل،
المئات من النقوش البارزة فى موقع أنجكور الأثرى، الذى سيبيعونه لمهربى
التحف التايلانديين، ولكن قبل ذلك سيقومون بقطع رءوس عشرات من تماثيل بوذا
بايون، وهو معبد جنائزى يعود إلى أواخر القرن الثانى عشر.
فى أفغانستان،
فى مارس ٢٠٠١، قامت حركة طالبان بنفس الشيء ألا وهو تدمير التماثيل
الثلاثة الضخمة البارزة لبوذا المنحوتة بجسم هضبة تقع فى وادى بامين، والذى
يقع فى وسط البلاد على بعد ٢٣٠ كيلومترًا فى شمال غرب كابل.
الرسالة
تبقى واحدة: كل ما يأتى قبلنا ليس له أى فائدة، كل هذه الآثار تشكل تحديًا
غير محتمل فى هذه البداية الجذرية القائمة، وهذه البداية يجب أن تتحكم فى
الزمان، وتمحى آثار أى أشكال الوجود السابق لقيامها! وبلا أى نوع من
التجديد، قام مؤيدو دولة الخلافة بنفس الأمر بمدينة بالميرا وفى أماكن
أخرى، وكما فعل الخمير الحمر، فقد قام هؤلاء بتهريب الآثار والمتاجرة فيها،
وفى الأول من ديسمبر ٢٠١٣، قام الجهاديون بإعادة غزو قرية معلولا
المسيحية، واختطاف ١٢ راهبة من دير القديس ثيكلا الأرثوذكسى وارتكاب «مجزرة
أثرية حقيقية»، وتدمير أيقونات استثنائية، ونهب كنيسة الدير، وهو أحد أقدم
المبانى المسيحية فى تاريخ العالم من أوائل القرن الرابع، ولأن هؤلاء
المجرمين يعيشون فى العصر الرقمى لم ينسوا أن يقوموا بتصوير أعمالهم السيئة
ونشرها على الفور على ما يُسمى خطأ «الشبكات الاجتماعية»، ويمكن للمرء أن
يرى واحدًا من هؤلاء الأغبياء يحاكى مشهد التزاوج مع تمثال للعذراء
المباركة، وتم تحرير القرية فى ١٤ أبريل ٢٠١٤ من قبل الجيش الحكومى السورى
وحزب الله.
وفى جميع الأحوال، تصل أيديولوجية الخلافة إلى أوجها من خلال
ثلاثة أبعاد: إيقاف وإعادة تخصيص الوقت وتدمير كل المظاهر التى تشهد على
زمن آخر، وهى عبارة عن إقامة ازدواجية لا يمكن تجاوزها بين «نحن»
و«الآخرون»، وكأنها مواجهة بين الخير والشر، للحضارة الوحيدة أخلاقية حيث
تحل «القيم» محل أى نوع من السياسة المحتملة، وباعتبار أن القيم الوحيدة
المقبولة هى قيمهم الممكنة ضد الهمجية، مؤكدين مبدأ «من ليس معنا؛ فهو
ضدنا»، ومن هذا المنظور، فإن الأسطورة، كما قلنا، تتمتع بالموضوعية
الطبيعية، وتُسهم أيضًا فى إلغاء التاريخ، وكأنها صحوة.
فى أحد أعمدة
الكاتب المنشورة فى لوبوان بتاريخ ١٤ يونيه ٢٠١٨، قام الكاتب برنار هنرى
ليفى بالإصرار على أنه يعرف كل النخبة بمدينة نيويورك، بما فى ذلك مذيعة
«سى إن إن» الشهيرة كريستيان أمانبور التى قدمها على أنها إحدى بطلات
الكاتب «هيمنجواي»، وكتب برنار فى أحد مقاطع مقالته: «لم أكن قد قابلت
كريستيان أمانبور منذ سنوات «سراييفو»، فلقد مرَّ ما يقرب من ربع قرن؛ حيث
كانت إحدى تلك المحررات الصحفيات التى ترى حرب البوسنة على أنها حرب
إسبانيا، وكانت تذكرنى بمارثا جيلرهون، زوجة هيمنجواى، أو بجاردا تارو،
رفيقة روبيرت كابا، التى دهستها مدرعة ودفنت بمقابر الأب لاشيز أو
«بيرلاشيز»، وهى مقبرة أرادها الكاتب آراجون وصممها جياسوميت».
وراء خلط
المفارقات التاريخية الساخرة أو ما بعدها، ينتج الفيلسوف الإعلامى الزائف،
بطريقته الخاصة، أساطير معاكسة للتاريخ تمامًا، أو بالأحرى لا تاريخية،
هدفها الأخلاقى التفرقة أيضًا بين الأخيار والأشرار، وفى هذا الصدد، هذه
الأيقونة للتدنى الباريسى ما هى إلا وجه للانتكاس فى أسوأ صوره، وفى كتاب
منسى منذ زمن، اسمه «وصية الله»، كان يحاول بالفعل «إضفاء الطابع الجوهري»
على تاريخ الشعوب؛ من أجل إظهار تفوق أتباعه فى الدين: فاليونانيون
مستقرون، بينما يهاجر اليهود؛ لذا فإن الأوائل يميلون للانغماس فى العنصرية
القذرة، فى حين أن الأخير سيظل مفتوحًا للعالم ومرتبطا بذكائه المتفوق.
وفى
كتيب آخر، باسم الأيديولوجية الفرنسية، قام برنار هنرى ليفى بتوزيع
الجوانب الإيجابية والسلبية «للتعاون» و«المقاومة»، مؤكدًا أن معاداة
السامية ليست فقط عمل نظام فيشى، بل واحدة من الخصائص الأساسية للتاريخ
العميق للشعب الفرنسى.
باختصار، فإن معاداة السامية -وفقًا لـ«ليفي»-
تتطابق مع «جوهر» فرنسا نفسها- هذا «التجنيس» نفسه لتاريخ الاحتلال جعل
الرئيس جاك شيراك يقول –بعدما استوحى أفكاره من سيرج كلارسفيلد وكريستين
البانيل- إن مسئولية الغارة على فيل ديهيف لم تكن مسئولية فقط مع نظام
بيتان ولكن لفرنسا ككل، وفى لندن، فقيام الجنرال ديجول بتمثيل فرنسا الحرة
لا يهم كثيرًا هؤلاء المتلاعبين الذين لا يتوقفون عن تحويل التاريخ لقصص
أخلاقية تتطابق مع اختياراتهم الأيديولوجية.. ستقولون، إننا نبتعد عن
أيديولوجية الخلافة. كلا! على العكس نحن بقلبها؛ فإن هراء ليفى يظهر أن
الخمير الحمر وطالبان ومقاتلى «داعش» لا يمتلكون أيديولوجية تسحق التاريخ
بشكل مستمر، لتحويله لقيم يمكن تطبيقها وفقًا لمصالح اللحظة.
بالفعل،
نرجسية ليفى التى لا يمكن مقارنتها بأحد تجعله يقارن نفسه بجان بول سارتر:
فالحقائق معروفة، نجوم ما بعد الحرب العالمية: سارتر، بوفوار، وكامو وغيرهم
كانوا مشغولين جدًّا خلال سنوات ١٩٤٣-١٩٤٥، وتم عرض مسرحيات، مثل الذباب
وسوء تفاهم بموافقة الرقابة الألمانية.
وقد أشاد الألمان بالموهبة
المسرحية لسارتر، كذلك راوية سيمون ديبوفوار «الضيف»، التى رشحت لجائزة
الجونكور عام ١٩٤٣، كما كتب الكاتب الكبير أندريه ماكين كتاب «فى بلاد
الرقيب شرايبر» صدر فى دار نشر لوسوى عام ٢٠١٥، قائلًا: «غير أن هؤلاء لم
يتوقفوا بعد الحرب فى إعطائنا دروسًا أخلاقية؛ لتكون حرًّا، يجب عليك أن
تفعل ذلك! لتكون مفكرًا ملتزمًا تجاه قضية ما افْعَل هذا!
حياة الآخرين،
هى أيضا حياتنا، من السهل جدا أن نقتصر على الشر المطلق على «داعش» أو
«القاعدة»، لكى نعفى أنفسنا منه كغربيين! حقيقة إلغاء التاريخ، ومصادرة
الزمن، وإرجاعه إلى حالة الطبيعة، وتكاثر الأساطير المميتة لا يقتصر على
الوعظ الوهمى للجهاديين، لقد صنعنا أسوأ جهاز يلغى عقول الأشخاص،
المستهلكين للعولمة المعاصرة من خلال الفقدان الجماعى والازدواجية
الأخلاقية: الخير والشر، البربرية والحضارة، معنا وضدنا، الشبكات الرقيمة
واللااجتماعية.
ومع الشبكات الإلكترونية والرقمية، يمكنك -من خلال
«نقرة» بسيطة- أن تحب وتكره فى وقت واحد، لديك الملايين من الأصدقاء دون أن
تحيى جارك المجاور، مع الحكم على كل شيء ولا شيء دون علم أو معرفة، هذه
الآلات الرهيبة تنتج الانحلال الاجتماعى، العزلة والاغتراب، والميل لمتابعة
أى دجال.