الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

شيطنة الشارع.. الخصوص نموذجًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ما حدث في مدينة الخصوص من اعتداء على الأقباط، وامتد إلى الكاتدرائية بالعباسية، عقب تشييع حثامين الضحايا، في هجوم مفارق للحس المصري والأخلاق المصرية على الجنازة المهيبة والحزينة؛ يعيد بعث التخوفات الحقيقية على مستقبل الوطن واندماجه، ولا يمكن النظر إليها باعتبارها مجرد حلقة في سلسلة الأعمال الإجرامية المستهدِفة للأقباط، والتي ترجع بداياتها المنظورة إلى العام 1972 في مدينة الخانكة المتاخمة للخصوص هذه، ولا يمكن اعتبارها فتنة طائفية كما اعتاد الرسميون وإعلامهم تسميتها.
والقراءة المتأنية تكشف أن للأمرِ جذورًا وامتدادًا يحتاج إلى توقف وتدبر ومساءلة، وإلى فهم اللحظة والمرحلة التي نعيشها.
هل نستطيع أن نوصِّفها بموضوعية؟ هل المرحلة التي نجتازها مرحلة انتقالية، أم الشروع في البناء، أم تأسيس الجمهورية الثانية، أم الفوضى، أم ماذا؟
المراوحة بين كل هذه التوصيفات أقرب إلى الواقع، وعلينا أن نُقرَّ بهذا بعيدًا عن المعارك “,”التوكشوية“,” (من التوك شو)، الجيل الجديد للمعارك “,”الدونكيشوتية“,” (من دون كيشوت)، بحسب رواية الكاتب الإسباني “,”ميجيل دي سيرفانتس“,” (1605)؛ فما زال الأصل والمنتج الجديد يحاربان طواحين الهواء ويفرغان طاقتهما في غير محلها.
الأزمة -بعيدًا عن ضغط اللحظة- أنه بينما يتصارع الأفيال يتحطم العشب تحت أقدامهم الثقيلة الغاشمة، والعشب في حالتنا أقباط مستهدفون، بل وطن وشعب واقتصاد وشارع وسلام ومستقبل، والمتحاربون لاهون كفّت أعينهم عن البصر وآذانهم عن السمع.
ما زال الكل يستخدم أدوات ما قبل التحول إلى عصر جديد ومفارق لما كان قبل 25 يناير - 11 فبراير، وهو تحول يخضع بدوره لاختلالات التوصيف أيضًا، حتى من دانت لهم السلطة
ما زالوا بعيدين عن طرح رؤاهم وترجمتها باعتبارهم حكامًا. حين تسمعهم تستشعر أنهم يتحدثون بمفردات المعارضة التي تكثر فيها “,”الينبغيات“,”، والمناشدات، والتبريرات المتحججة بضيق ذات يد اتخاذ القرار.
كل الأطراف تراهن على تحرك الشارع، بل وتحثه على إعادة إنتاج الثورة، أو الاضطرابات والاعتصامات والمظاهرات، بل والعصيان المدني، وقد يكون هذا متفهَّمًا من القوى والكتل السياسية المعارضة، أو من بعض المحللين والباحثين والمتابعين للمشهد عن بعد، لكنه يبقى عصيًّا على القبول عندما نجده واردًا على لسان السلطة الحاكمة.
فعندما التقى السيد الرئيس بالجالية المصرية بالسودان في فندق كورنثيا بالعاصمة الخرطوم -بحسب التغطيات الإعلامية- صرح بأنه “,”إذا لزم الأمر أن يكون هناك ثورة مرة أخرى فسأدعو المصريين لها“,”، نحن أمام رئيس دولة يدعو شعبه إلى ثورة.
الداعون إلى الثورة هم من يرفضون بقاء الوضع على ما هو عليه وينشدون إزاحة السلطة الحاكمة وإحلال غيرها قادرة -في تصورهم- على تصحيح المسار وتحقيق مطالب الشعب.
هكذا فعلت ثورة يوليو، الانقلاب الذي تدعم شعبيًّا في لحظته فتحول إلى ثورة، وهكذا فعل انقلاب 25 يناير2011، الثورة التي تحولت إلى انقلاب بعد اختطافها من الشعب، وهكذا تفعل كل الثورات والانقلابات في كل الدنيا.
أما أن تأتي الدعوة، أو تطرح الفكرة، من السلطة الحاكمة؛ فهذا أمر يحتاج إلى مراجعة وإلى توقف؛ لأنه يؤكد ما ذهبنا إليه: أنها لم تستوثِق بعدُ من أنها سلطة حاكمة مكلفة -وفق المعايير المستقرة في عالم السياسة- بإدارة الأزمة، والصراع بأدوات متفق عليها، ليس من بينها الدعوة إلى ثورة، التي تعني هنا الدعوة للاحتراب الأهلي، والصراع الصدامي، وربما الدموي، على الأرض؛ لأنها في الحقيقة دعوة للاستقواء بالموالاة، ودعوتها للتحرك على الأرض والاحتشاد في مواجهة المعارضة، التي صارت تمثل صداعًا وقلقًا في المشهد الرئاسي وأروقة الحكم.
وقوى المعارضة -بطبيعة الحال- لن تقف مكتوفة الأيدي؛ لنجد أنفسنا أمام اصطفاف ينتقل بنا من المربع السياسي إلى مربع المصادمة، التي تبدأ بالتظاهرات وتنتهي إلى الاقتتال.
وربما يكون من الأهمية والموضوعية أن نستشرف ونتصور المشهد على خلفية الدعوات الملحة لتقنين تشكيل المليشيات المسلحة كحق للكتل السياسية، وإن طرحت بمسميات مخادعة ومستترة، لنقف على كارثية الطرح.
وفي توازٍ نفهم السعي الحثيث لخلخلة قوة وتماسك منظومة الأمن الرسمية، وتهميشها، أو شغلها بقضايا ليست في دائرة مهامها، واختراق ما تبقى منها للاستحواذ عليها.
يحدث هذا بعد أن تولت كتائب رأس الحربة الهجوم المكثف على الميديا بتنوعاتها بقنابل دخان كثيفة، تحاصرها، وتجرجرها إلى ساحات النيابة والقضاء، وتشوهها؛ لتخلخل مصداقيتها لدى المتلقي، مشاهدًا وقارئًا وحتى مستمعًا، بعد أن اكتشفت مدى خطورتها على خطط الاستحواذ التي تبدأ إقصاءً.
وغير بعيد، وفي نفس اللقاء مع الجالية المصرية بالسودان، يتطرق الحديث إلى منظومة القضاء، حائط الصد الأخير للدولة المدنية، بالقول: “,”نسمع يوميًّا أن هؤلاء خدوا حكمًا وهؤلاء أُفرج عنهم، وما إلى ذلك، ويقول آخرون ده ليه حق، وحقوق الإنسان يجب احترامها»، «الفاسد المجرم يجب أن ينال عقابه... كل يوم عندنا حكاية كأن ماحصلش حاجة، وفاضل نديهم مكافآت بعد كده، وأن نقول غلطنا في حقهم، وإزاي قمنا بثورة ضد الناس الطيبين دول“,”.
الانتقال من الارتباك المرافق للانتفاضات والانقلابات، وحتى الثورات، إلى نظامية دولة المؤسسات؛ يستوجب التخلي عن آليات الثورة، أو الانقلاب، إلى آليات الدولة، ومنها التأكيد على منظومة الحقوق بغير انتقائية، وعلى الفصل بين السلطات، التي بدونها نعيد إنتاج تغول السلطة التنفيذية على السلطتين الأخريين.
ماذا كنا ننتظر من سيادة رئيس الدولة إذن؟
ظني أن استشعار الرئيس أن المعارضة تصعِّد من هجومها على إدارته وخياراته؛ هو ما دعاه لطلب غوث من الشارع، أو بالأدق، من الموالاة، وهذا يتسق مع خيار الديمقراطية، ويؤكد أن الحيوية السياسية وجدت لها مكانًا بيننا، وأن الحاكم الديكتاتور لم يعد خيارًا مطروحًا عند فخامة الرئيس.
كان الصحيح -وفق معايير الخيار الديمقراطي ذاته وكما خبرتها ومارستها الدول العريقة في الديمقراطية- الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، يحتكم فيها الرئيس إلى الشارع؛ ليؤكد جدارته بثقة الشعب، عبر آلية الصندوق التي يستمسك، بل ويفاخر، بها. ساعتها لن يقوى أحد على تعويق رؤيته، أو زعم أنه يمثل القوى الثورية والشارع.
الدعوة لإعادة إنتاج الثورة، عندما تنطلق من السلطة الحاكمة، قد تأخذنا إلى شيطنة الشارع.. وها نحن في محور الخصوص- الكاتدرائية إزاء واحدة من تداعياتها.