الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصر والعرب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرف العرب مصر مُنذُ حقبٍ بعيدة، وذلك بفضل ما كان بينها وبين شبه الجزيرة العربية من صلات أبرزُها الصلة التجارية. ذلك أن مصر كانت منذ العصر الفرعونى دولة بحرية تجوب سُفنها التجارية البحرين المتوسط والأحمر، وهيمنت على التجارة الشرقية، والمعروف أن الفراعنة شقوا طُرُقًا ملاحية تصل البحر الأحمر بفروع النيل لتسهيل الحركة التجارية، ومنها تاجروا مع الحجاز واليمن. ولم تكن الطُرق البحرية الأداة الوحيدة التى تصل مصر بشبه الجزيرة العربية، بل كان مضيق السُويس أداة اتصال بينهما، فقد كان فى شبه جزيرة سيناء طريقٌ عبَّدهُ المصريون القدماء، يؤدى إلى مناجم النحاس فيها، وكان هذا الطريق يتصل بشمالى الحجاز ويتقاطع عند تيماء مع الطريق الذاهب إلى العراق، ويتصل بطريق القوافل المُنحدر إلى مكة واليمن، إنه الطريق التُهامى الموازى تقريبًا لساحل البحر الأحمر من عدن إلى أيلة - العقبة - ومنها إلى مصر.
كان المصريون يحملون البضائع التجارية إلى بلاد العرب ويُقيمون فيها ريثما يعودون بتجارة الشرق، وكذلك فعل العرب. ومن أبرز القصص والأدلة على ذلك ما ورد فى سفر التكوين عن قصة النبي يوسف وقافلة الإسماعيليين (العرب)، فقد جاء فى الإصحاح السابع والثلاثين (ثُمَّ جَلَسُوا لِيَأْكُلُوا طَعَامًا. فَرَفَعُوا عُيُونَهُمْ وَنَظَرُوا وَإِذَا قَافِلَةُ إِسْمَاعِيلِيِّينَ مُقْبِلَةٌ مِنْ جِلْعَادَ، وَجِمَالُهُمْ حَامِلَةٌ كَثِيرَاءَ وَبَلَسَانًا وَلاَذَنًا، ذَاهِبِينَ لِيَنْزِلُوا بِهَا إِلَى مِصْرَ). ولقد أدت هذه الحركة التجارية إلى استقرار جالية مصرية فى بلاد العرب، وإقامة جالية عربية فى مصر. ويُشير بعض الباحثين والمُؤرخين إلى هذه العلاقة التاريخية الوثيقة بين مصر والعرب، وعلى رأسهم المؤرخ الإغريقى الشهير «هيرودوت»، الذى أكد لدى رحلته لمصر قبل الميلاد تواجد العرب من أبناء شبه الجزيرة العربية فى مصر سواء من جهة الشمال فى سيناء والمناطق المجاورة أو من جهة الجنوب فى ولايات الصعيد والبحر الأحمر. وبحسب المؤرخ جمال حمدان، فإنه وقبل ظهور الإسلام كانت حركة التاريخ الإقليمى والتجارة والعلاقات والهجرات بلا انقطاع بين غرب شبه الجزيرة العربية ووادى النيل، خاصة بين مصر والجزيرة فى الشمال. وعلى نطاقٍ محلي أصغر انتقلت جالية من صعيد مصر إلى مدينة فى الحجاز قبل الإسلام حتى استقرت وتوطنت، ويُقال إن أصل أبنائها هم الذين استقبلوا النبى بالترحيب عندما هاجر من مكة إلى يثرب.
وقد ظن الكثيرون أن وجود العرب فى مصر كان تابعًا وتاليًا لدخول الإسلام إليها، والحقيقة غير ذلك، ومن المعلومات التى لا يعرفها الكثيرون أن الملكة كليوباترا تحالفت واستعانت بمالك بن عبادة ملك الأنباط العرب أثناء صراعها مع شقيقها. وقد وصف المؤرخ «ديودور الصقلى» المعاصر ليوليوس قيصر، عرب الصحراء الشرقية وذكر أنهم يسكنون فى منطقة البحر الأحمر، وتحدث أكثر من مؤرخ عن علاقة العربان بالرهبان، وأن الأديرة كانت تبنى عادة فى الصحراء بجوار القبائل القوية التى تستطيع حمايتها، وكان الرهبان يعلمون القبائل التدين والروحانية. حتى عمرو بن العاص حينما جاء تاجرًا تعرف إلى معظم العرب فى مصر، وهؤلاء هم الذين آووه وجيشه عامًا كاملًا منذ دخوله مصر وحتى فتحه «حصن بابليون»، ففى هذا العام كله لم يرفع سيفًا، لأنه قابل فى طريقه لحصن بابليون قبيلة «بلى» فى سيناء، و«الطحاوية» و«الفضالة» فى الشرقية، وهذه القبائل هى التى أسست مع جيشه أول مسجد وهو مسجد «سادات قريش» وهو الآن فى بلبيس بالشرقية. وحينما خرج جيش عمرو من مصر لفتح أفريقيا كان معظم جنوده من قبيلة «الجميعات» بالبحيرة. ذلك أن طبيعة العربى أنه فارس يكر ويفر ويقاتل، أما طبيعة الفلاح المصرى المكث فى الأرض وحب السلام، وقد وجد العربى ضالته مع قدوم جيش عمرو وتوجهه لفتح شمال أفريقيا لشرعنة نشاطاته فى الكر والفر والحرب، وأنه سيؤجر عليها دينيًا ودنيويًا. ولعل سائلًا يتساءل: أين عاش العرب فى مصر قبل الإسلام؟ والإجابة أنهم عاشوا فى الشرقية وسيناء والصحراء الشرقية وجبال البحر الأحمر، حيث كانوا يحمون التجار والقوافل ويقدمون لهم أدلاء الطريق.
أما بعد الإسلام فإن معظم القبائل التى جاءت مع عمرو بن العاص استوطنت الفسطاط، أما القبائل الشامية فقد ورثت ضياع وأراضى الرومان، وكلهم أهل زراعة وتحضر، أما الجزء الثالث فأكمل المسير مع عقبة بن نافع حتى بلاد المغرب، وقد استمرت الهجرات من الحجاز إلى مصر فى عام المجاعة وكذلك أيام الفتنة الكبرى، وأيام فتنة عبدالله بن الزبير حيث كان شقيقه مصعب حاكمًا لمصر. أما العدد الأكبر من العرب فقد جاءوا مع قيام الدولة العباسية حينما هرب مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين إلى مصر.
وقد ضاع نفوذ العرب السياسى فى عهد العباسيين فخلعوهم من الولاية وجعلوها للفرس والترك، أما الفاطميون فقد أزالوا نفوذ العرب المالى بعد السياسى وأحلوا محلهم البربر والمغاربة. وأكبر نزوح عربى لمصر وأفريقيا كان مع الهجرة الهلالية بقيادة السلطان حسن الهلالى سنة 390 هـ، وكانت عبر البحر الأحمر، واستقرت فى محافظات قنا وأسيوط وسوهاج والفيوم، ويحصيها بعض المؤرخين بمليون مهاجر.
وقد استعان صلاح الدين الأيوبى بالعرب لكسر الفاطميين، ولعبوا دورًا مهمًا مع قطز فى معركة عين جالوت. وبعد أن ضعف المماليك وساءوا توترت العلاقة بينهم وبين قبائل العرب، ولكن الغلبة كانت للمماليك. وقد تحالف شيخ العرب همام مع بعض شيوخ فلسطين ضد المماليك والعثمانيين، وكلاهما كان يكره العرب، وعند قدوم الحملة الفرنسية نظم العرب أول مقاومة مسلحة لهم عند الساحل الشمالى للإسكندرية وأخرى بقيادة محمد المهدى فى الرحمانية سنة 1799، وقد استعان العرب بأولاد عمومتهم من فلسطين والحجاز وليبيا.
وفى دمنهور ضريح الشيخ مجاهد النهارى «قائد حملة الحج الليبية» الذى رفض إكمال سيره للحج وحارب الفرنسيين قائلًا «الجهاد فى مصر مع العرب خير من الحج فى مكة».
و قد كون العرب، بحكم هذا الواقع التجارى الذى ذكرناه، صورة عن أوضاع مصر، زادها القُرآن وُضوحًا حين تحدث عن غنى هذا البلد الزراعي. فقد ورد فى القُرآن تعقيبٌ على ما حدث من غرق فرعون وقومه: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. وجاء أيضًا: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾، وورد على لسان بنى إسرائيل بعد أن أخرجهم النبي موسى من مصر: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ...﴾.
وقد أثبت بعضُ الباحثين اشتراك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين اللُّغة المصرية القديمة واللغة العربية، مما يدل على أن عرب شبه الجزيرة لم يكفوا عن الخُروج منها والتدفق على مصر قبل وطوال التاريخ المكتوب. وكانت صحراء سيناء وأطراف الدلتا بالنسبة لهم منطقة انتقال وتأقلم إلى أن يتم اندماجهم وتشرُّبهم. ويؤكد جمال حمدان أن ذلك يعنى بوضوح إن تعريب مصر سبق فى بدايته الفتح الإسلامي، وأنه قديمٌ فى مصر قدمًا أزليًا وإن كان الفتح نفسه هو الخطوة الحاسمة.