الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شجرة المرأة.. غابة الطبيعة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
كان ماكس فيبر يبحث داخل فوضى الأنواع الاجتماعية (وحتى البيولوجية) عما سماه «النوع النموذجى»... لأن الطبيعة متعددة فوضوية من حيث المبدأ، والنماذج فيها متباينة متداخلة، نحتاج فى كنفها إلى تحديد نموذج أمثل، تحدده حاجتنا ووجهات نظرنا ومقارباتنا لموضوعاتنا أيضا.
والمرأة جزء مجروح من هذه الطبيعة، وماكس فيبر لم يجبنا فى الحقيقة عن موقع الجرح فى الأنثروبولوجيا والتاريخ، هل نعتبر الجرح جزءا من الطبيعة، ونترك للطبيعة عناء العلاج، من باب أن الطبيعة هى المرجع الكلى لكل الظواهر التى فى الحياة؟ ويمكننا أن نتأمل وجهة النظر الأفلاطونية وكيف أنه يشير بوضوح إلى أن «المدينة الفاضلة تتحقق حينما يُستعاد نظام الطبيعة».
والسياسة المثلى يمكننا اعتبارها نظاما «كوزموسياسيا» إن جاز التعبير، وهذا ما سوف يجعل الفيلسوف الأرسطى الكبير هانس يوناس، وهو المتخصص فى المسائل الأخلاقية فى الزمن التكنولوجى، يقول: إن الغايات الأخلاقية مندمجة مع الطبيعة، وأنه يكفى أن ننصت إليها لكى نبت فى المسائل الشائكة».
تنويعات
ماذا تقول المرأة فى كتاباتها؟ ماذا تريد أن تقول؟ ماذا نريدها نحن فى الدائرة الرجولية أن تقول؟ وما الذى ينبغى لها أن تقول؟
الغالب هو أن النسويات يكثرن الإصرار على فرادة الكتابة النسائية، ولا ينفك هاجس تسطير الفرادة هذا أن يتحول إلى تهميش جديد، فكأن المرأة ليست كاتبا بل مجرد مدون لأشياء المرأة؛ حميمياتها أو وجهات نظرها صوب العالم، والتى هى فى نهاية الأمر وجهات نظر ذاتية يمكننا ردها على أعقابها... المرأة قبل أن تكتب رواية نسائية هى «كاتبة» و«روائية»، وعلينا تذكر الحرج الكبير الذى وجده النسويون وهم يحاولون تسطير التفرد لمحاربة التهميش، فيفاجئون بخندقة جديدة هى وقوعهم فى هامش ما هو ليس رجوليا بعد هربهم مما هو أنثوى؛ وهى الوضعية التى يتعسر معها العمل من أجل إضاءة «ما بين الاثنين» الذى لا هو «نسائى» ولا «ذكورى». ويحدث أن تتجلى هذه الوضعية من خلال إبداع الكاتبة لنوع جديد من الوجدان؛ هو الرغبة فى ألا تكون امرأة، مع العجز عن أن تكون رجلا.
وهنا يأتى «هانس يوناس» صامتا لأنه يرى ما تفعله الطبيعة التكنولوجية بالنفس التى تعمل عليها وعلينا أن نستحضر فكرة أن التقنية قد تصيب الطبيعة النفسية التى تعودنا على عدها مخبأة داخل فضاء حميمى بعيد المنال أحسنت اللغة العربية فى تسميته «الخافية».
يبدو أن الكاتبات الناضجات يملن عموما إلى رفض التمييز، ويؤطرن نفوسهن ضمن إطار الكتابة، مع جعل النقائص شاملة للرجل والمرأة معا فى عالم تدعو فيه إحداهن إلى تحرير الرجل قبل المرأة. تقول غادة السمان: «الصورة فى نظرى ليست امرأة مظلومة ورجلا مظلوما. الصورة فى نظرى عالم من التخلف تنعكس مآسيه على المرأة والرجل معا» وسنجد عددا من الأديبات يرفضن هذا التصنيف عكس ما يتبادر إلى الذهن من خلال الاستماع ألى الفلسفة النسائية.
وقد تكون الطبيعة درسا نتعلم خفاياه، وهو ما كان يركز عليه جماعة التنوير، روسو وكانط وغيرهما كثيرون ممن خاضوا فى مسألة التعلم هن طريق «التطويع»... فهل يمكن أن نتعلم تطويع طبائعنا التى تتغير بمعزل عنا على ما يروق برامجنا الاجتماعية والحضارية؟
من جهة ثانية، يبدو أن رفض التصنيف «الجنوسى» هذا جاء من باب كون هواجس المرأة اجتماعية بالدرجة الأولى، فطبيعتها متأخرة دائما بقاطرة أو اثنتين عن دورها الاجتماعى.
إن دور الراصد(ة) الاجتماعية هذا هو أهم عناصر تهميش إشكاليات الجنوسة، لأن هذا الدور يجعل الراصد كاتبا ويؤخر إلى آخر المراتب هاجس التفكير فى جنس من يقوم بهذا الرصد.
وهنا نجد تفسير ظاهرة أن أهم مجال تمارس فيه المرأة أنوثتها أو تمارس التعبير عن تجليات هذه الخصوصية أكثر مما تفعل مع موضوع آخر؛ ذلك هو الجنس ومواضيع الجسد. مجال يغلب أن يتحول إلى أرضية دلالية خصبة للخوض فى المسائل الفلسفية والاجتماعية، لا كميدان للمطالبة السياسية أو ميدان للجدل حول شئون المرأة.
إن الجنس جزء مهم من واقع الإنسان، وميدان خصب لتجلى أبعاد الحياة النفسية والاجتماعية وملامح الإنسان الأبعد عن الجنس؛ كالملمح السياسى والاقتصادى، وهى كلها عناصر يختصرها عنوان «الواقعية»... فمتى تحول الجنس/ الحب/ الجسد إلى موضوع واقعى/ اجتماعى وجدنا «تاء التأنيث» تسقط من المكان نفسه الذى نتوقع علوها فيه.
زبدة القول
يستوقفنا كثيرا الإدراج الفلسفى لمسألة الأنوثة كمسألة أخلاقية، وهنا يمكننا أن نورد ما تقوله بطلة رواية فضيلة الفاروق «اكتشاف الشهوة»، إذ تقول: «لم أكن فتاة مسالمة فى الحقيقة، كانت رغبتى الأولى أن أصبح صبيا، وقد آلمنى فشلى فى إقناع الله برغبتى تلك، ولهذا تحولت إلى كائن لا أنثى ولا ذكر، لا هوية لى غير الغضب الذى يملأنى» (ص١٤).
ويحضرنى هنا النموذج الأخلاقى الكبير للعالم الكلاسيكى؛ نموذج أرسطو الـ«كوزمو أخلاقى»، وهو نموذج يجعل تراتب الفضائل حسب شكل الإنسان: العقل فى الأعلى، البطن أسفل والغريزة الجنسية أسفل الاثنين...
السؤال هنا هو: كيف يمكن أن نحكم على النظام الأخلاقى؟
يقول فرويد جملته الشهيرة «تحول إلى ما أنت عليه فعلا»؛ أو استعد طبيعتك، فيما سيفكر هانس يوناس بطريقة غريبة من منطلق إمكانيات التكنولوجيا أن تغير الطبيعة عن طريق الجراحة... ولكم الجراحة الكبرى على أيامنا تحدث دون جروح، فقد صححت الطبيعة مساراتها لكى تبتعد عن الطبيعة إلى غير رجعة.. ولكن هذه مسألة أخرى.