الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الكتب الجريحة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يوجد أكثر من الضحايا فى هذا العالم الذى ألف التدمير ومن أجله ابتدع بمهارة فائقة كل الوسائل الجهنمية لإحداثه هنا وهناك وبلا هوادة أو رحمة.
من الكذب والتمثيل والادعاء مرورا بالنصب والاحتيال والتزوير وانتحال الصفة والخيانة والمؤامرة إلى القتل والحرق والتشويه.. ثم الإبادة وطمس وإخفاء الثقافات والهويات والحضارات مراحل أو قل مراتب يمر بها المدمرون فى أى عصر من العصور.. وكان ولا يزال العنصر الأكثر هشاشة وتأثرا وعرضة لمحاولات التدمير هو «الكتاب».
مكتبات كاملة كان قدرها أن تقع ضحايا للهمجيين والبرابرة قاصدين تدمير الذاكرة الجمعية لأمم بأثرها وحرمانها من حقها الطبيعى فى أن تعرف هويتها وإرثها وتراثها من أجل إحكام السيطرة عليها والتمكن من تغيير وعيها وجلدها لتعتنق أفكار ومعتقدات أبدا لم تكن لتعتنقها.. أبدا لم تكن لتروق لها.. أبدا لم تكن لتعرفها لولا أنها فُرضت عليها.
إن جرائم إبادة الكتب لا تقل بشاعة عن القتل الممنهج والإبادة الجماعية لشعب أو أمة صارت أثرا بعد عين لمجرد رغبة أنظمة قمعية فى محوها من صفحة الأرض والتاريخ، لا لشيء غير أنها تمثل عائقا كبيرا فى طريق سيطرة تلك الأنظمة الوحشية أو نشر أفكارها وأيديولوجيتها الظلامية والمتطرفة.
الأكثر براءة وطهرا مستعدون دائما لدفع الثمن، وبما أنه ليس هناك أكثر براءة وطهرا وهشاشة من الكتب؛ فقد كانت أولى ضحايا الهمج والبرابرة كما كانت دائما فى طليعة الذين أتلفتهم الطبيعة لحظة أفلتت من عقالها، وهى اللحظة التى يستحيل عندها الحد أو السيطرة على ثورتها وغضبها العارمين. 
«وعلى سبيل المثال أتلفت الفيضانات التى اجتاحت فلورنسا فى عام ١٩٦٦ قرابة مليونى كتاب، كان العديد منها مخطوطات نادرة وثمينة. وفى عام ١٩٨٨ التهمت نيران مدمرة أكثر من ثلاثة ملايين كتاب فى أكاديمية العلوم فى لينجراد.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الكوارث تصيبنا بالحزن وتخلف فى نفوسنا إحساسا بالخسارة؛ فإن استجابتنا لدمار الكتب من جراء الكوارث الطبيعية تختلف عن استجابتنا لتدميرها المتعمد.
ما الفارق حقا بين الذين تفجعهم كارثة تدمير الكتب والمكتبات، والذين يلقون بالكتب طواعية بل وبابتهاج فى قلب النيران؟ وكيف تنسجم مُثل التقدم الإنسانى مع العنف والتدمير واسع النطاق للثقافة اللذين ميزا القرن العشرين؟
بهذين السؤالين استهلت الكاتبة والباحثة ريبيكا نوث كتابها «إبادة الكتب.. تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية فى القرن العشرين» الصادر مؤخرا عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب بالكويت، ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، ونقله إلى العربية عاطف سيد عثمان.
وبعيدا عن الكوارث الطبيعية التى تقع الكتب ضحايا لها؛ فإن الباحثة تؤكد أن إبادة الكتب عادة ما تحدث أثناء الحروب والاضطرابات الأهلية الهائلة، إذ يتحول كم كبير من هذا الإرث الإنسانى الضخم إلى حطام ونفايات، كما أنها ـ أى الكتب ـ تكون «عُرضة للنهب والتخريب العشوائى والظروف التى يفرضها القتال وقصف المدن. بالإضافة إلى ذلك قد تتداخل تقديرات الخسائر مع العوامل السياسية، مثل الانتقام عقب الحرب أو دوافع طلب تعويضات ثقافية أو السيطرة الاستبدادية المستمرة على تدفق المعلومات. وفى هذا الشأن تضرب الباحثة مثلا بالاتحاد السوفيتى، وكيف أنه تكبد خسائر هائلة فى الكتب والمكتبات بسبب النازيين، لكنه لم يجمع قط قوائم ولا أعد توثيقا لها. ولكى يؤطر الحزب الشيوعى صورة الاتحاد السوفيتى بوصفه بلدا وقع ضحية للفاشية النازية، ضرب على الفور سياجا من السرية التامة حول غنائم الحرب من مجموعات الكتب التى استولى عليها الجيش الأحمر، والتى يقدر عددها بنحو ١١ مليون كتاب فى الأيام الأخيرة للحرب.
تقول الباحثة «إن المجتمع النابض بالحياة والمتطور لا ينفصل عن سجلاته، وأن تدمير هذه السجلات يقلص الحيوية الثقافية ويفضى إلى الانحطاط. لذلك يعرب الناس أيضا عن حنقهم وغضبهم ممتزجين بعبارات الانتحاب والرثاء، أسفا على التدمير المتعمد للكتب، وغالبا ما يعزو الضحايا حملات الاعتداء على الكتب إلى كراهية متعصبة يقودها الخبل ضد الحياة والتعلم والذاكرة والحضارة».
تسرد لنا الباحثة كمًّا هائلًا من الجرائم التى ارتكبت بحق الكتب فى القرن العشرين.. منها على سبيل المثال، ما قامت به القوات الألمانية فى ١٩٤٣؛ حيث سكبت الجازولين بطريقة ممنهجة فى كل غرفة من غرف مكتبة الجمعية الملكية فى نابولى، وأشعلت النيران فيها بإلقاء مقذوفات يدوية عليها انتقاما لمقتل جندي. كما تحدثت عن الأضرار التى لحقت مكتبات نيجيريا فى اعتداء البرابرة عليها عام ١٩٧٢، كذلك ما فعله الصرب فى مكتبات (زادار) عام ١٩٩٣. 
الكتاب زاخر بكم هائل من الجرائم والفظاعات المشينة والمخجلة التى ارتكبتها أنظمة وأمم تدعى فى كل لحظة تمدينها وتحضرها وحرصها على الإنسان وإرثه وحضارته.. وإذ لا يتسع لنا المقام لسرد كل ما جاء بين دفتيه فإننا ننصحكم بمطالعته.