السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أبطال منسيون مهدوا للعبور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«منذ أن وصلت إلى جبهة القتال فى الخط الأمامي، تلح عليَّ ذاكرتى أن أُسجل ما يحدث وما يجرى فى مواجهتنا للعدو الصهيوني.. وأقول حقيقةً بأن الذى أكتبه وما يجرى به قلمى ليس إلا النذر اليسير.. وإذا لم توافنى منيتى أو يدركنى الموت، فسوف أقص على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم.. أما إذا كانت نهايتى على أرض القناة، فسأموت مستريحًا لأن أفكارى وجدت طريقها ولم تعجز عن الحركة.. وبذلك تكون هذه المذكرات هى حديث الرصاص الذى يجب أن تتكلم به قضية شعبنا».
هكذا قدم الشهيد أحمد حجى لمذكراته التى شملت رصدا لقصص إنسانية وحكايات لأبطال منسيين بذلوا الدم على جبهة حرب الاستنزاف، تحديدا القنطرة غرب، من أبريل عام 1969 إلى ديسمبر عام 1970، توقف بعدها عن التدوين حتى استشهد عام 1972.
تخرج حجى فى كلية الطب البيطرى بعد هزيمة 1967، وجُند بالقوات المسلحة عام 1968 فى مكان آمن فى القاهرة، لكنه تقدم بطلب لنقله إلى الجبهة، فُنقل وتولى الشئون الطبية فى الكتيبة التى خدم بها بمنطقة القناة، وهناك وثق الشهيد بمداد من الدم والعرق قصص جنود مهدوا ببطولاتهم فى حرب الاستنزاف للعبور العظيم فى حرب أكتوبر.
كان للشهيد حجى إسهاماته فى الثقافة والفن قبل التحاقه بالقوات المسلحة ونشر فى مجلة «الطليعة» عددا من المقالات منها «الكلمات والبارود» و«الفلاحون والعمل السياسي» و«محو الأمية عمل لابد منه».
منعت الرقابة نشر «مذكرات جندى مصرى فى جبهة قناة السويس» للشهيد حجى عام 1972، بدعوى أن الحرب مازالت قائمة، ورُفع الحظر عنها وسُمح بنشرها فى منتصف الثمانينيات، ثم أعادت دار الكرمة نشرها عام 2014 لتذكر الشعب المصرى بأمجاد مقاتلين لم يقف عندهم التاريخ.
قال عنها الأديب الراحل علاء الديب «مذكرات بسيطة مضيئة بهذا الحب للوطن.. أغنية حزينة قصيرة عن حرب عظيمة منسية، وأبطال أسطوريين، أصلهم من الفلاحين البسطاء»، بينما أشار ناشرها طاهر عبدالحكيم إلى أنها «تسجيل حى من معايشة الأحداث فى الجبهة.. وتوثيق تاريخى هام، سيظل حيًّا أبدًا فى ذاكرة شعبنا العظيم».
كتب حجى عن ليلته الأولى قائلا: «رأيت الحقيقة فى لحظات سريعة، العلم الإسرائيلى يرفرف على أرضنا!!.. تلك الليلة كان طولها ألف عام من حساب الزمن، سقطت منى الحماسة المتدفقة، وحضرتنى كلمات كنت قد قرأتها للشاعر الروسى إبلينا سيلنفسكي: فلتصمت الكلمات.. وليتكلم البارود.. البارود وحده».
بعدها سجل حجى تباعا فى يومياته حياة جنود.. بشر من لحم ودم، معاناتهم مشاعرهم أحلامهم وحماسهم وجنونهم، وفى بعض الأوقات خوفهم من الموت وتشبثهم بالحياة، ثم إقبالهم عليه وتمسكهم بالنصر.. نقل حكايات أقرب إلى الأسطورة، قصص لأبطال قاوموا وتصدوا بإمكانيات قليلة، إلا أن الإصرار والإيمان رجح كفتهم فى مواجهة العدو الصهيوني. 
يقول «تحت لهيب الشمس الحارقة تجد طلبة كليات الطب والعلوم والهندسة وهم يحملون الفئوس، ويقسمون أنفسهم إلى مجموعات فهؤلاء يحفرون الملاجئ، وهؤلاء يعمِّقون الخنادق».
وعن المدافع القديمة التى هزموا بها العدو يروى قائلا: كانت طائرات العدو تلقى على مواقعنا شحنات وحشية من القنابل، وتضربنا بالصواريخ المتتالية دون توقف.. أصيب عدد من مدافعنا.. واستشهد عدد من رجالها، وأصاب اليأس عددا آخر من أفراد المدافع الباقية، وهموا بالتراجع.. صاح قائدهم: «من يتراجع سوف أضربه بالنار».. عادوا إلى مواقعهم واستبسلوا مع بقية زملائهم.. ولكن الطائرات المعادية لا تكف عن إلقاء حمولاتها المميتة على رؤوسنا حتى بلغت القلوب الحناجر، والقائد مازال يصيح: «اضربوا.. اضربوا حتى آخر طلقة».
يضيف حجي: انتابتنا روح من الجنون.. لم يعد يهمنا شىء.. نسينا الدنيا كلها، ولم يصبح أمامنا سوى العدو الذى يريد قهرنا واختراق مواقعنا.. كان جنودنا ينتهزون فرصة انطلاق طائرات العدو وهى تحوم لتعاود الضرب من جديد.. ليعاودوا حشو مدافعهم بالقذائف، ويطلقوها قبل أن تعود الطائرات.. لقد أصبحنا نحن والمعركة جسدا واحدا، ولم نتنبه إلا أن مدفعيتنا القديمة نالت من العدو، وأن جحافله كانت قد فرت عن آخرها.. لم نتنبه لذلك إلا بعد أن توقفت الطائرات عن الظهور فوق رؤوسنا.. ولم ننم حتى الصباح.. كانت المدافع ما زالت مشرئبة الأعناق».
وعرض حجى قصصا لزيارات فئات مختلفة للجبهة، منهم وفد لطلبة بهدف «رفع روح الجنود المعنوية فإذ بهم بعد الإقامة بينهم أيامًا وفهمهم لحقيقة الوضع يعترفون للجنود بأن روحهم المعنوية هى التى ارتفعت من عظمة ما رأت على أيديهم، وكذا الشيخ المتزمت الذى أقام بينهم أيامًا غيرته.. وحين يشكو الشيخ فى يوم تالٍ من رفض الجنود التجمع للصلاة، يدوى القصف الشرس على الموقع، فيدرك الشيخ أن ما كان يفكر فيه خطأ، وأن حديث الجنود عن تسهيل التجمع لاستهدافهم عسكريًا كان أصدق وأصوب، فيخلع جبته وعمامته ويبدأ فى حمل صناديق الذخيرة لتسليمها لجندى التعميرة وهو يهتف الله أكبر.. الله يقويكم يا ولادي».
رصد حجى فى يومياته أبطالا صنعوا النصر، ضحوا بدمائهم لاسترداد الأرض، قضى منهم من قضى، وعاد منهم من عاد ليشهد على ما جرى بعد العبور من ضياع الحلم فى وهم السلام.. رحم الله حجى ورفاقه، والمجد لكل من قاوم وضحى ورفض، والعار على كل من سلم وباع.





«منذ أن وصلت إلى جبهة القتال فى الخط الأمامي، تلح عليَّ ذاكرتى أن أُسجل ما يحدث وما يجرى فى مواجهتنا للعدو الصهيوني.. وأقول حقيقةً بأن الذى أكتبه وما يجرى به قلمى ليس إلا النذر اليسير.. وإذا لم توافنى منيتى أو يدركنى الموت، فسوف أقص على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم.. أما إذا كانت نهايتى على أرض القناة، فسأموت مستريحًا لأن أفكارى وجدت طريقها ولم تعجز عن الحركة.. وبذلك تكون هذه المذكرات هى حديث الرصاص الذى يجب أن تتكلم به قضية شعبنا».
هكذا قدم الشهيد أحمد حجى لمذكراته التى شملت رصدا لقصص إنسانية وحكايات لأبطال منسيين بذلوا الدم على جبهة حرب الاستنزاف، تحديدا القنطرة غرب، من أبريل عام 1969 إلى ديسمبر عام 1970، توقف بعدها عن التدوين حتى استشهد عام 1972.
تخرج حجى فى كلية الطب البيطرى بعد هزيمة 1967، وجُند بالقوات المسلحة عام 1968 فى مكان آمن فى القاهرة، لكنه تقدم بطلب لنقله إلى الجبهة، فُنقل وتولى الشئون الطبية فى الكتيبة التى خدم بها بمنطقة القناة، وهناك وثق الشهيد بمداد من الدم والعرق قصص جنود مهدوا ببطولاتهم فى حرب الاستنزاف للعبور العظيم فى حرب أكتوبر.
كان للشهيد حجى إسهاماته فى الثقافة والفن قبل التحاقه بالقوات المسلحة ونشر فى مجلة «الطليعة» عددا من المقالات منها «الكلمات والبارود» و«الفلاحون والعمل السياسي» و«محو الأمية عمل لابد منه».
منعت الرقابة نشر «مذكرات جندى مصرى فى جبهة قناة السويس» للشهيد حجى عام 1972، بدعوى أن الحرب مازالت قائمة، ورُفع الحظر عنها وسُمح بنشرها فى منتصف الثمانينيات، ثم أعادت دار الكرمة نشرها عام 2014 لتذكر الشعب المصرى بأمجاد مقاتلين لم يقف عندهم التاريخ.
قال عنها الأديب الراحل علاء الديب «مذكرات بسيطة مضيئة بهذا الحب للوطن.. أغنية حزينة قصيرة عن حرب عظيمة منسية، وأبطال أسطوريين، أصلهم من الفلاحين البسطاء»، بينما أشار ناشرها طاهر عبدالحكيم إلى أنها «تسجيل حى من معايشة الأحداث فى الجبهة.. وتوثيق تاريخى هام، سيظل حيًّا أبدًا فى ذاكرة شعبنا العظيم».
كتب حجى عن ليلته الأولى قائلا: «رأيت الحقيقة فى لحظات سريعة، العلم الإسرائيلى يرفرف على أرضنا!!.. تلك الليلة كان طولها ألف عام من حساب الزمن، سقطت منى الحماسة المتدفقة، وحضرتنى كلمات كنت قد قرأتها للشاعر الروسى إبلينا سيلنفسكي: فلتصمت الكلمات.. وليتكلم البارود.. البارود وحده».
بعدها سجل حجى تباعا فى يومياته حياة جنود.. بشر من لحم ودم، معاناتهم مشاعرهم أحلامهم وحماسهم وجنونهم، وفى بعض الأوقات خوفهم من الموت وتشبثهم بالحياة، ثم إقبالهم عليه وتمسكهم بالنصر.. نقل حكايات أقرب إلى الأسطورة، قصص لأبطال قاوموا وتصدوا بإمكانيات قليلة، إلا أن الإصرار والإيمان رجح كفتهم فى مواجهة العدو الصهيوني. 
يقول «تحت لهيب الشمس الحارقة تجد طلبة كليات الطب والعلوم والهندسة وهم يحملون الفئوس، ويقسمون أنفسهم إلى مجموعات فهؤلاء يحفرون الملاجئ، وهؤلاء يعمِّقون الخنادق».
وعن المدافع القديمة التى هزموا بها العدو يروى قائلا: كانت طائرات العدو تلقى على مواقعنا شحنات وحشية من القنابل، وتضربنا بالصواريخ المتتالية دون توقف.. أصيب عدد من مدافعنا.. واستشهد عدد من رجالها، وأصاب اليأس عددا آخر من أفراد المدافع الباقية، وهموا بالتراجع.. صاح قائدهم: «من يتراجع سوف أضربه بالنار».. عادوا إلى مواقعهم واستبسلوا مع بقية زملائهم.. ولكن الطائرات المعادية لا تكف عن إلقاء حمولاتها المميتة على رؤوسنا حتى بلغت القلوب الحناجر، والقائد مازال يصيح: «اضربوا.. اضربوا حتى آخر طلقة».
يضيف حجي: انتابتنا روح من الجنون.. لم يعد يهمنا شىء.. نسينا الدنيا كلها، ولم يصبح أمامنا سوى العدو الذى يريد قهرنا واختراق مواقعنا.. كان جنودنا ينتهزون فرصة انطلاق طائرات العدو وهى تحوم لتعاود الضرب من جديد.. ليعاودوا حشو مدافعهم بالقذائف، ويطلقوها قبل أن تعود الطائرات.. لقد أصبحنا نحن والمعركة جسدا واحدا، ولم نتنبه إلا أن مدفعيتنا القديمة نالت من العدو، وأن جحافله كانت قد فرت عن آخرها.. لم نتنبه لذلك إلا بعد أن توقفت الطائرات عن الظهور فوق رؤوسنا.. ولم ننم حتى الصباح.. كانت المدافع ما زالت مشرئبة الأعناق».
وعرض حجى قصصا لزيارات فئات مختلفة للجبهة، منهم وفد لطلبة بهدف «رفع روح الجنود المعنوية فإذ بهم بعد الإقامة بينهم أيامًا وفهمهم لحقيقة الوضع يعترفون للجنود بأن روحهم المعنوية هى التى ارتفعت من عظمة ما رأت على أيديهم، وكذا الشيخ المتزمت الذى أقام بينهم أيامًا غيرته.. وحين يشكو الشيخ فى يوم تالٍ من رفض الجنود التجمع للصلاة، يدوى القصف الشرس على الموقع، فيدرك الشيخ أن ما كان يفكر فيه خطأ، وأن حديث الجنود عن تسهيل التجمع لاستهدافهم عسكريًا كان أصدق وأصوب، فيخلع جبته وعمامته ويبدأ فى حمل صناديق الذخيرة لتسليمها لجندى التعميرة وهو يهتف الله أكبر.. الله يقويكم يا ولادي».
رصد حجى فى يومياته أبطالا صنعوا النصر، ضحوا بدمائهم لاسترداد الأرض، قضى منهم من قضى، وعاد منهم من عاد ليشهد على ما جرى بعد العبور من ضياع الحلم فى وهم السلام.. رحم الله حجى ورفاقه، والمجد لكل من قاوم وضحى ورفض، والعار على كل من سلم وباع.