الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ذكرى روح أكتوبر بين شيَابنا وشبيبتنا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يخطئ من يتجاهل ذلك التمزق والتشتت الذى آلت إليه البنية الثقافية المصرية، ولا سيما إذا شرع فى رصد تباين المفاهيم، ودلالتها، والتصورات وانعكاساتها، والآراء وبواعثها التى يتشكل منها العقل الجمعي.
نعم إننا فى أزمة حقيقية تبدو فى انقسام الرأى العام المصرى والعربى وتشتته الذى بدد وحدته وتآلفه، فلا نكاد نلمح فيه سوى صراع غير منتج. أجل صراع بين الشياب والشباب، والرأى العام القائد والجمهور التابع، صراعًا بين المتعصبين لشعارات جوفاء، والمستغربين المنتمين لإيديولوجيات مفارقة فى أصولها وفروعها لمشخصاتنا التليدة التى نشأنا عليها وجعلت منا هوية صلبة، تحمل بين طياتها عراقه جذورنا الجامعة بين الدين والعلم، والتسامح مع الأغيار وحب الخير للإنسانية، والعدالة فى كل صورها، والصدق وغير ذلك من القيم الروحية والأخلاقية التى تدعم تماسك البنية الثقافية.
وإذا ما أردنا البرهنة على ما زعمناه ووصفنا به حاضرنا المهلهل الشاغل بالفساد والعبثية، فيكفينا قراءة ذكرى انتصار السادس من أكتوبر فى ثقافتنا المعاصرة، فسوف نجد الشيَاب يتذكرون تلك الروح التى دفعتهم - وهم فى ريعان الشباب - إلى العمل والتضحية، والاستشهاد من أجل استرداد الأرض، والكرامة، والعزة التى سلبت منهم على يد المحتل الغاصب المدعوم بالقوى الاستعمارية الغربية، ويسترجعون كذلك لحظات الانكسار والانتصار ووحدة الصف والقلب النابض بالوطنية والإصرار على النهوض ثانية بعد العثرات والكبوات ومرارة الفشل، ويستدعون كذلك روح التآخى والتضامن والتراحم بين أفراد الشعب بكل أطيافه- وهى عند الله أفضل من صلاة الناسك وزكاة المجاهد- تلك التى سادت جيلهم ويأسفون أيضًا على تبديد كل ذلك فى حياتهم المعاصرة، بداية من تدنى الأذواق وانتهاءً بالجشع والأنانية وضيق الأرزاق. ذلك فضلًا عن نظرتهم إلى الشبيبة المعاصرة نظرة المتحسر على جيل من الضعفاء والمستهترين العاجزين عن تحمل المسئولية.
أما شبابنا فلا يعدو أن يكون ذكرى السادس من أكتوبر فى مخيلاتهم سوى عيد رسمى وعطلة ليوم واحد يستمتعون فيها بمشاهدة بعض الأفلام أو الجلوس أمام الفيس بوك وتويتر، ويستمعون إلى بعض الأغانى الوطنية التى لا تؤثر فى مشاعرهم وأذواقهم التى أفسدها ما اعتادوا على سمعه أو اللهو على المقاهى التى استملحوا الجلوس عليها. وإذا سألت أحدهم عن تلك الأيام التى توحدت فيها كلمة العرب لأول مرة فى تاريخهم الحديث وكادت أن تجلسهم على مآدب السادة وصناع القرار. فسوف تجد إجاباتهم متباينة حيال تقييم ذلك الانتصار، وتلك المعجزة العسكرية، وذلك الإبداع فى التخطيط، وحكمة القيادة التى قادت شبيبة المصريين آنذاك إلى محو الأوهام التى كان يسعى العدو إلى غرسها فى أذهان المصريين لتيئيسهم وتثبيط عزائمهم وقتل آمالهم، وسوف تجد فيهم- أى فى شبابنا- من يهون من تضحيات جنودنا، ويشكك فى نوايا قيادتنا وما عقدوه من اتفاقيات لاسترداد ما سُلب. نعم نعانى جميعًا من تلك الأدران، وذلك التشتت الذى أصاب روح الولاء والانتماء عند الشباب فى مقتل. وولد تلك النظرة العبثية التى دفعت بعضهم إلى جحد الهوية، والتكالب على الهجرة، وقدح الواقع المعيش، وازدراء كل الثوابت، وهذا الأمر لا يقل عن تلك الحرب التى خاضها شيابنا منذ 45 عاما فى السادس من أكتوبر، فعلى شبيبتنا محاربة الشائعات الرامية إلى تفكيكنا، بكل مظاهر التطرف والشطط والمجون، ولا ننسى تلك الحرب الدائرة على أرض سيناء ضد الإرهاب وعصابات الحقد التى ترمى إلى استنزاف كل طاقاتنا، وتحول بيننا وبين رحلتنا فى الرجوع إلى الأمام، ولا أكون مبالغًا إذا أكدت أن حروب الجيل الرابع والخامس لا تقل عنفًا وضراوة عن حرب أكتوبر، الأمر الذى يستوجب تجييش شبيبتنا لاستلهام روح السادس من أكتوبر للتصدى لذلك الغزو لحماية أرض الوطن، مؤكدين أن الأمم العريقة هى التى تصنعها المحن.
والسؤال الذى يطرح نفسه على شبيبتنا: هل نحن مستعدين لخوض هذه المعركة ضد قوى الشر التى فككت وحدتنا باسم المعتقدات الشاذة وأفسدت مقاومات إبداعاتنا فى ميدان العلم والفكر والفن؟ وليعلم الجميع أن ما نحن فيه من عثرات وأزمات هو التحدى الحقيقى لاختبار صلابة هويتنا المصرية القادرة دومًا على صناعة الانتصار، فيأتى أحفادنا ويتذكرون ما صنعناه أو يلعنون تلك الأيام التى لم يقو فيها شباب اليوم على تحمل المسئولية، والخيار لكم شبيبتنا. 
وبعين التفاؤل أقول لكم: إن خلاصنا جميعًا فى وحدة الصف والعمل بإخلاص من أجل غد أفضل. تمضى الأزمات وتتبدل القيادات ولن يبقى سوى ذلك الحبل المتين الذى يجمعنا من أجل مصر، ألا هو الولاء والتآزر ووحدة الصف. 
وحسبنا فى هذا السياق أن نتذكر كلمات الفيلسوف الألمانى هيجل (1770-1831) الذى صرح فى كتابه (محاضرات فى فلسفة التاريخ) «بأن المصريين كانوا فتيانا أقوياء ممتلئين بطاقة خلاقة، لا يحتاجون إلى شيء سوى الفهم الواضح لأنفسهم فى صورة مثالية لكى يصبحوا شبابًا قادرين دومًا على صنع المعجزات... وقد عبر المصريون أنفسهم عن تلك الروح الخالدة فى النقوش الشهيرة على جدران معبد الربة «نيت» (ربة المياه الأولى التى وجد منها العالم)، تلك التى جاء فيها (أنا ما هو كائن، وما قد كان، وما سوف يكون ولم يرفع قناعى أحد قط)، أى أن تلك الروح المصرية مستمدة من طبيعة الإله الذى لم ولن يقف على أسرارها أحد».
أى أن الروح المصرية تحوى فى بنيتها صراعا مثمرا بين الأضداد (المثالية والواقعية، الروحية والمادية، الخرافة والعلم، التسامح والعنف) وهو العلة الحقيقية لخلودها وعبقرية ذهنها.
ترى، هل نحن فى حاجة لنصوص هيجل لترغيب شبيبتنا فى فهم أنفسهم؟
وها هو الفيلسوف الأمريكى أرنولد توينبي (1889-1975) يشيد بعبقرية المصريين وأصالتهم، ويقر بأن قانونه فى حركة تطور التاريخ (التحدى والاستجابة) لا يجد أفضل تجسيدًا له أكثر من ثقافة المصريين، فالشعب المصرى قد ضرب على مر تاريخه أروع الأمثلة على ذلك؛ فهو يتحدى المحن ويتغلب على الصعوبات بإرادة صلبة تمكنه من صناعة المستحيل.
وإذا ما استلهمنا كلمات هيجل وتوينبى؛ فإننا نستشرف فى القريب العاجل أن تعود اليد العاملة المصرية إلى سابق عهدها تصنع وتشيد وتفلح الأرض القفر، وتعزف عن تلك البلادة والتكاسل والتنطع الذى نراه فى تلك المهن (سائق التوك توك، البائع المتجول، المتسكع فى مواقف السيارات، والمتربين). تلك التى لا تليق بعبقرية المصريين، وهى أقرب للبطالة والتسكع فى الشوارع منها إلى السواعد القوية والأيدى الماهرة المتقنة والذهنية المبدعة التى شيدت الأهرامات وبنت السد العالى ومئات المصانع المنتجة للبضائع تحمل شعار «صنع فى مصر»، وطورت عشرات الأسلحة، واعتلت المقامات الرفيعة فى ميادين الطب والهندسة والطبيعيات والفلك والأدب والفن.
وسؤالى الأخير لشبيبتنا: هل فى إمكاننا اقتفاء أثر أسلافنا ونحتفى بأمجادهم فى أكتوبر المقبل، لا فى ميدان القتال وحده بل فى شتى ميادين التقدم والعمران؟