الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

يا حلوة.. ما الخبر؟ قصة لقاء جمعني بـ"جارة القمر"

فيروز
فيروز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أبدا لم أكن أسمعها «تغنى»
كان صوتها يدق شغاف قلبى مثل عصفور براءتى الذى ينقر كل صباح على نافذة أحلامي، كنت دائما أسمعها «تعزف». بصوت هو فرقة موسيقية كاملة، كنت- وما زلت- أسمع فى ذلك الصوت نداء ملائكيا قادما من السماء، كأنه صوت مؤذن جميل يطلبنى لصلاة الفجر. هكذا كانت- وما زالت- فيروز عندى.

قررت رؤية فيروز.. حتى لو تسبب تأجيل سفرى فى فصلى من العمل مئات اللبنانيين يحاوطون سيارة فيروز ويقدحون القدّاحات ويصدحون بأغنياتها
أنظر كيف كنت إنسانا محظوظا، حين سمعتها ورأيتها وتعرفت عليها وجلست معها، فى ليلة واحدة- ويا لها من ليلة- صافحت بأحداثها الغريبة ضوء الصباح.. فما عدت أفرق بين تلك الليلة وذلك النهار.. حدث ذلك فى الكويت قبل سنوات، حين ذهبت فى زيارة قصيرة لأيام معدودات، وبينما كنت أستعد لحزم أمتعتى فى الليلة التى تسبق سفرى، تلقيت مكالمة هاتفية من واحدة من أقرب صديقات فيروز إلى نفسها، أن سفيرة لبنان إلى القمر التى يلتف حولها الملايين، لا تتدثر سوى بدفء أصدقاء قلائل. هم فقط الذين تستريح إليهم، ومعهم فقط تنزع عباءة «صورة الفنان الشامخ» التى يفرضها عليه جمهوره.
مع نخبة أصدقائها لا تغنى.. فيروز تدندن.. تتحدث تداعب.. تضحك.. تحاور، تكشف عن «فيروز الفنانة».. ربما أعلى إلى حيث المنطقة التى يلعب فيها أطفال الملائكة.
على الهاتف سألتنى صديقة فيروز المقربة: ماذا تفعل؟
قلت: ألملم شتات أوراقى وملابسى استعدادا للرحيل؟
قالت بدهشة: أو ترحل قبل أن تراها؟
كنت أعلم أن فيروز سوف تقوم بإحياء حفلتين على «مسرح سينما الأندلس»، وكنت حزينا لاضطرارى لمغادرة الكويت لارتباطى بأعمال صحفية فى القاهرة قبل موعد حفلتى فيروز. لكن لم يخطر على بالى أبدا أنها تتحدث عنها، لقد قالت: «قبل أن تراها» ليس وقبل تسمعها.
قلت: تعلمين أننى أتشرف دائما بلقاء أصدقائك.. لكنك تعلمين أيضا أن إبراهيم سعدة، رئيس تحرير «أخبار اليوم»، قد حدد موعد عودتى، ولم أتعود مخالفة أوامره.
قالت وهى تضحك: لو من أجل عيون فيروز؟
فيروز معى فى كل لحظات يومى ومعظم ساعات ليلى! اسطواناتها لا تتوقف فى مكتبى أو سيارتى أو بيتى. صوتها يجرى فى شرايينى مع كرات الدم الحمراء والبيضاء.
قالت صديقة فيروز: لقد قلت «تراها».. ولم أقل «تسمعها».
سألتها غير مصدق: هل تعنين..؟
قاطعتنى بمرح: نعم.. لقد كانت «نهاد» وهذا اسم فيروز الحقيقى، تحدثنى عبر الهاتف منذ دقائق. أخبرتها أنك فى الكويت ورحبت بأن تراك، وتتحدث إليك فور انتهاء حفلتها الأولى.. فما رأيك؟
رددت على الفور: حقيبة سفرى يمكن أن تنتظر.
سألتنى ضاحكة: ورئيس تحريرك.؟
قلت: لا مانع «عندى» أن يفصلنى من عملى من أجل فيروز، لكنى أعتقد أنه لا مانع «عندك» أن تتوسطى لى عنده.
قالت قبل أن تنهى المكالمة: وقد فعلت.. فاهدأ واستعد للقاء فيروز بعد الحفلة الأولى.. موعدك معها.
قلت: موعد أنتظره من أعوام طويلة.

كأننى ذاهب إلى لقاء حبيبة..
اشتريت بذلة جديدة.. أكثر من ربطة عنق.. ذهبت لأقص شعرى.. نمت طوال النهار.. لكنى لم أنم.. هل يعد نائما من رقد يتقلب مغمض العينين فى الفراش يمتلئ لهفة وتوترا وشوقا؟ وهل صحيح سأسمعها وأراها فى ليلة واحدة؟
كالنائم كنت أسبح فى بحيرات صوتها القادم من جهاز تسجيل صغير بجوار الفراش.. وبين النوم واليقظة تخيلت أننى رأيتها، وهى لم تزل بعد الصبية الجميلة «نهاد حداد»، التى ولدت وعاشت سنى صباها فى بيت متواضع، تساعد أمها فى أعمال المنزل.. وتصدح بصوت أخاذ أغانى أسمهان وهى تعجن الطحين.
رأيت الصبية التى كبرت وأصبحت «فيروز لبنان»، كما أصبح «لبنان فيروز».. عبر أكثر من أربعين عاما من الشدو ونثر الحب على الملايين.. بدأت منذ تلقت مع زوجها الراحل عاصى الرحبانى دعوة رسمية، لتقديم بعض أغانيها فى الإذاعة المصرية بالقاهرة.
وساءلت نفسى: فيروز.. كم مليون عربى عشق على صوتك، كم مليون ساهر قضى ليله يبث نجواه فى موسيقى حنجرتك السماوية؟
وسألتها بين منامى ويقظتى: سيدة قلبى وقلوب الناس.. كيف شكلك يا أجمل زهور حديقة الأغنية؟ وكيف أمكنك يا حلوة أن تسرقى الفرح من أعماق نفسك لتعطى الآخرين شجاعة السعادة ولذة الثقة؟ وما الذى حدث لنفسك النبيلة طوال سنوات عذاب ووحدة.. وأنت تزرعين فى كل لحظة فيها الرحمة والحب والجمال فى قلوب الناس؟
ساءلت نفسى..
وجاءنى الصوت الجميل عبر جهاز التسجيل
من يوم تغربنا قلبى
قلبى عم بيلم جراح
يا ريتا بتخلص هالغربة
تا قلبى يرتاح

عطر ورجال مبتسمون ونساء جميلات.. فرحة وانتظار.. رهبة واشتياق هكذا رأيت الناس يدخلون إلى مسرح «سينما الأندلس» فى تلك الليلة.. وخارج المسرح كان المئات من اللبنانيين قد حضروا مع زوجاتهم فى أبهى ثياب سهرة. رغم أنهم لم يكونوا من المحظوظين الذين حصلوا على تذاكر الدخول وقد نفدت بكاملها حتى قبل حضور فيروز إلى الكويت، لكن هكذا اللبنانيون يكفيهم أن يقضوا السهرة على الرصيف خارج المسرح.. لقد جاءوا من أجل «سيدة لبنان»، حتى وأن لم يستطيعوا سماعها وهى تغنى.
مضى الوقت جميلا..
وكلما اقترب موعد رفع الستار، كنت أشعر بالجالسين حولى ينتفضون شوقا. بدأ الجميع يستعد عندما تناهت إلى الأسماع أصوات الموسيقيين وقد صعدوا إلى خشبة المسرح، وبدأ فى ضبط الآلات الموسيقية، لكن فجأة حدث ما لم يكن يخطر على بال.
ظهر أحد رجال الأمن على خشبة المسرح.. تردد قليلا وعلامات الضيق على وجهه.
ثم قال بصوت حاول أن يجعله هادئًا: رجاء ألا تنزعجوا.. لقد تلقينا بلاغًا هاتفيًا يزعم وجود قنبلة فى المكان.. فنتمنى أن تغادروا المسرح فى هدوء حتى نتأكد من صحة البلاغ!
ساد صمت غريب المكان..
لم يتحرك أحد من مكانه وكأن الجميع قد تسمروا إلى مقاعدهم. عاد رجل الأمن ليقول: نرجوكم مغادرة المسرح لدقائق.. أن البلاغ جد خطير.
لم يتحرك أحد.
جاء صوت من آخر القاعة، يقول بلا تردد: لن نغادر المكان، وإذا كان أحد يريد إيذاءها، فقد حضرنا من أجلها.. وسنبقى معها! انتبهت من صدمتى على صوت يصرخ فى وجهى..
كانت صديقة فيروز: نهاد.. يجب أن أذهب لأطمئن عليها.
لم تعطنى الفرصة سحبتنى وراءها، لنكتشف أن رجال الأمن أخبروا فيروز بأمر بلاغ القنبلة، فى اللحظات الأخيرة التى كانت تستعد فيها للصعود إلى خشبة المسرح، ثم حملها عنوة من الباب الخلفى إلى خارج المسرح وأجلسوها فى سيارة خوفا عليها.
توقفت مع صديقة فيروز، عندما خرجنا نبحث عنها عند أغرب مشهد رأته عيناى، كان المئات من اللبنانيين، الذين كانوا يقفون خارج المسرح وعلموا بما حدث. قد أسرعوا إلى سيارة فيروز وأحاطوا بها، وأشعلوا جميعا قداحاتهم وانطلقوا فى غناء بعض أغانيها. وكأنهم يقولون لها: لا تخافى يا حلوتنا.. نحن هنا.. ونحن معك! فى تلك الليلة أبدعت فيروز كما لم تبدع من قبل.
اكتشف رجال الأمن بعد ساعة أن البلاغ كاذب، وظهرت فيروز وسط عاصفة جميلة من التصفيق الحماسى. فى تلك الليلة «ابتسمت» السيدة الوقورة، لناسها، وغنت من أعماق قلبها. غنت أولا لتنزع ما قد يكون قد علق من خوف فى قلوبهم.. ثم غنت لتسعدهم.. وقد سعدوا وخرجوا يترنحون من نشوة السعادة.
مضى الناس إلى بيوتهم وقادتنى صديقة فيروز إلى حيث جناحها فى فندق «حياة ريجنسى». فتحت لنا باب الجناح بنفسها وقادتنا ببساطة إلى الصالون وجلست إلى أريكة شرقية.
سألت صديقتها: شو اللى حصل؟
رأيتها- جميلة هذه المرأة- استمعت إليها- إنسانة هذه الإنسانة- وناقشتها- ذكية هذه الفنانة- هى نادرة الحديث عن نفسها، خاصة مع الصحفيين لا تحب أجهزة التسجيل التى يحملونها معهم.
قالت لى فيروز وهى تضحك: شو بدك فينى.. أحك لى عن نفسك.
عرفت أنها أبدا لا تجرى حديثا صحفيا بالصورة التقليدية، أنها حين تسمح لأحد بذلك، فإنه يكون بأن يجلس إليها أكثر من مرة؛ حيث يدور الحديث حول موضوعات شتى.. لا سؤال ولا جواب.
عندما جئت إليها بعد يومين بصورة مما كتبته. لعلها تحذف أو تضيف شيئا.
أشاحت بالأوراق جانبا..
سألتنى: هل قرأت ما كتبته بعد أن انتهيت منه؟
قلت لها: أكثر من مرة.
سألتنى: هل أحببته؟
قلت: بصراحة.. نعم.
قالت وهى تعيد لى أوراقى: أذن ادفع بأوراقك إلى المطبعة.
واكتشفت ساعتها أن أول ما تؤمن به فيروز هو «الحب»، عن أنها نفسها قصيدة حب صاغتها السماء.
والتقيت بها بعد ذلك أكثر من مرة. وفى كل مرة كنت أذهب فيها إلى بيروت كنت أسعى خلفها، وأذكر أننى فى إحدى الزيارات لم أستطع الوصول إليها.. كنت على موعد مع الرئيس اللبنانى إلياس الهراوى، وبعد أن انتهيت من إجراء حديث سياسى معه. وقبل أن أغادر مكتبه.
قلت له: فخامة الرئيس.. إن لدى طلبا عندك.
قال الرئيس الهراوى: بأمرك؟
قلت له: هل تتوسط لى لكى ألتقى السيدة فيروز.. لم يبق سوى يوم واحد وأغادر بيروت دون أن أراها.
ضحك الرئيس اللبنانى بشدة.
وقال لى: أى شىء أستطيع التوسط فيه من أجلك، إلا هذا. إن السيدة فيروز لا ترى إلا من تحب أن تراه!
لكن الأجمل من ذلك أننى حين ذهبت إلى شقتها التى تسكنها فى بناية تطل على الروشة، وأخبرت «ناطور» البناية باسمى، وطلبت منه أن يخبر فيروز أننى أرغب فى رؤيتها، ثم انصرفت، لم أمش سوى بضع خطوات. حتى فوجئت «بالناطور» يعدو خلفى ويصيح.
• تعال.. الست فيروز تريدك.
كانت حرب الشهورالستة قد انتهت، وبيروت تضمد جراحها، بينما وقف زميلى المصور الفنان فاروق إبراهيم على الرصيف فى الشارع.. يلتقط بالكاميرا صورا لبعض طلقات الرصاص الطائشة التى أصابت شرفة فيروز.. كنت أصعد الدرجات عدوًّا وجدتها عند باب الشقة ترسم ابتسامتها الرائعة وتمد يدها الرقيقة مرحبة.
وقفت أمامها أتصبب عرقا امتلئ شوقا.
• بالصوت الحبيب نفسه، سألتنى: شو بك محمود؟
لم أرد..
لم أقل لها كم ليلة انتظرتها، وكم ليلة تمنيت أن أغنى لها أغنيتها:
«فى السهرة أنتظر..
يطول بى السهر..
فيسائلنى القمر..
يا حلوة.. ما الخبر؟».