الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الإمارات والهند.. تقارب سياسي وشراكة واعدة

الإمارات والهند
الإمارات والهند
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن تأثير الخلافات بين واشنطن وطهران محدود الأثر على الداخل الإيراني فحسب، لكن امتدت انعكاساته لتؤثر بشكل مباشر على توجهات السياسات الخارجية للدول. وعلى خلفية ذلك فقد قررت الهند دراسة عرض أمريكى كانت واشنطن قد تقدمت به خلال محادثات جرت فى نيودلهى يوليو الماضي، يقضى بتقليص الهند وارداتها النفطية من إيران لأقصى حد ممكن، مقابل الحصول على استثناء أمريكى من العقوبات. ومن ثم يكشف التجاوب الهندى مع هذا العرض عن توجه جديد أكثر ديناميكية بشأن تركيز السياسة الخارجية الهندية تجاه دول الخليج وبالأخص مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ما ينذر بحقبة جديدة أكثر انفتاحًا فى علاقة الدولتين، ستساهم فى تنمية جذور وآفاق التعاون الأصيلة بينهما.

ترتبط الإمارات والهند بعلاقات تاريخية ممتدة، فقد شكلت الهند خلال القرنين الـ ١٩والـ٢٠ بحكم موقعها المميز، المنفذ التجارى الرئيسى لدول الخليج العربى نظرًا لكونها مركز تسويق رئيسيا للؤلؤ الخليجى إلى العالم، وكذلك المورد الأول لتصدير السلع والخدمات، بينما يعتبر ميناء رأس الخيمة من أهم الموانئ التى يتم خلالها تصدير المنتجات الهندية إلى باقى دول المنطقة، وقد شهد عام ١٩٧٥ بلورة حقيقية لعلاقات البلدين، حينما أرسى «الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان» دعائمها خلال زيارته التاريخية للهند حينذاك، أعقبتها مباشرة زيارة لرئيسة وزراء الهند الراحلة «أنديرا غاندي» لدولة الإمارات عام ١٩٨١، والتى شكلت هى الأخرى نقلة نوعية أخرى فى مسار علاقات البلدين، ولعل أهم ما يميز علاقة الدولتين وجود سمات مشتركة تجمع بين شعوبيهما، من أبرزها انتشار قيم التسامح، والالتزام، واحترام التعددية والاختلاف، وهو ما يتضح فى كون الجالية الهندية من أكثر الجاليات قبولًا وانتشارًا بدولة الإمارات. ولعل حنكة القائمين على السياسة الخارجية للدولتين، وقدرتهم على إدارة مساراتها بموضوعية تامة بما يخدم المصالح المشتركة للدولتين، من أهم محفزات دفع علاقة الدولتين قدمًا، بل وتتعدد الزيارات المتبادلة بين المسئولين باستمرار فى مؤشر آخر على توطد علاقتيهما.
محفزات السياسة الخارجية للدولتين
دائما ما تدفع تطورات الأحداث الدول نحو إعادة هيكلة مسارات سياساتها الخارجية بما يتوافق مع مصالحها الوطنية، ورغم ذلك إلا أن هناك بعض الدول التى تحرص على أن تخضع سياساتها الخارجية لمجموعة من القيم الثابتة والأصيلة، وخير مثال على ذلك سياسة دولة الإمارات القائمة على أسس التعايش السلمى والاعتدال وفقًا للنهج الذى وضعه مؤسس الدولة الشيخ «زايد بن سلطان آل نهيان». فقد دأبت الإمارات على تفعيل أدوات القوى الناعمة فى تعزيز تواجدها، وتتضح أبرز ملامح هذا التوجه فى الاتفاقيات ومذكرات التفاهم المبرمة مع العديد من دول العالم فى مختلف المجالات، وفى الوقت ذاته فقد كرس إيمان الإمارات بحق العيش بسلام فى تعزيز مساعيها حول نشر مفاهيم الصداقة والأخوة لدرجة الانصهار فى بوتقة المجتمع متعدد الجنسيات، وهو ما يتجسد بوضوح فى نمط تعامل الدولة مع الجالية الهندية.
وتعكس المنظومة القيمية التى تحكم تحركات السياسة الإماراتية فى علاقاتها الخارجية مع دولة الهند، أنموذجًا للتعايش الإنسانى والحضارى والتسامح العرقى والدينى والسياسي، ولعل الإحصائيات الرسمية بين الدولتين خير دليل على ذلك. وقد شكلت زيارة رئيس الوزراء الهندى «ناريندرا مودي» فى أغسطس عام ٢٠١٥، باعتبارها الأولى من نوعها لرئيس وزراء هندى إلى دولة الإمارات منذ زيارة رئيسة الوزراء الراحلة «أنديرا غاندي» عام ١٩٨١؛ طفرة جديدة فى مسار علاقات البلدين، والتى سعى خلالها «مودي» إلى تحقيق تحولات كبرى على الصعيدين الداخلى والخارجي، بما يساهم فى إثقال النفوذ الهندى وتعزيزه إقليميًا ودوليًا. وقد دفعه ذلك نحو صوغ سياسة خارجية تعتمد على التعاون والعمل المشترك كجزء من إستراتيجية تنموية وطنية عبر التفاعل مع الدول المؤثرة إقليميا على رأسها الإمارات العربية المتحدة، ومن هنا فقد انصبت أبرز توجهات السياسة الخارجية الهندية نحو التركيز على منطقة آسيا ؛ مستثمرة بذلك ما تمتلكه منطقة الخليج تحديدًا من موارد نفطية يمكن أن تدفع نيودلهى نحو مزيد من تحسين أوضاعها، وفى الوقت ذاته حرصت الهند على تعزيز استخدامها للقوة الناعمة عبر دفع مغتربيها لتوطيد علاقتهم الحضارية والشعبية كنمط آخر من أنماط تقوية الأواصر لاسيما الجالية الهندية بالإمارات.
وقد ساهم كون الهند عضوًا بمجموعة «البريكس» فى امتلاكها إمكانيات تؤهلها لأن تصبح فى موقع أكثر تميزا ضمن التفاعلات الدولية. ويعد تصاعد خطر الإرهاب من ضمن المخاطر المشتركة التى تسعى الدولتان لمواجهتهما، فنجد أن استشعار الهند والإمارات لخطورة تلك الظاهرة، وتأثيرها المباشر على مسيرة التنمية، جعل من الضرورى أن تشهد العلاقات بينهما لاسيما على المستوى الأمنى مزيدًا من التعاون. وعلى الجانب الآخر يسعى الجانبان نحو تحقيق أكبر استفادة من تقلبات أوضاع الاقتصاد العالمى بما يوفر لهما فرصًا واعدة يمكن خلالها تجاوز العديد من العواقب والتحديات. ومن هنا كانت الحاجة نحو العمل باستمرار من أجل تطوير علاقتهما وسياستهما تجاه بعضهما بما يتواءم مع تطورات الأوضاع.
شراكة استراتيجية
تتعدد أنماط الشراكة الإماراتية ـ الهندية، لتشمل أبعادا سياسية، اقتصادية، دفاعية، أمنية، وكذلك على مستوى التعاون التكنولوجي. ولعل الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الجانبين خير شاهد على التصاعد الملحوظ فى معدلات التعاون ما بين البلدين.
العلاقات الاقتصادية
يشكل الجانب الاقتصادى اللبنة الأساسية للعلاقات الإماراتية الهندية، ويستدل على ذلك من بعض الإحصائيات؛ على سبيل المثال إجمالى الشركات الهندية التى تعمل بالإمارات، والتى يقدر عددها بنحو خمسين ألف شركة بقيمة استثمارات تبلغ حوالى ٨٠ مليار دولار، بينما تحتل شركات الإعمار العقارية والإنشاءات البترولية الصدارة، فيما تعتبر الجالية الهندية هى الأكثر تأثيرًا وتواجدًا فى قطاع الوظائف بالإمارات. وعلى حين تجد الشركات والمؤسسات الإماراتية كشركة «أبوظبى الوطنية للطاقة»، وجهاز أبوظبى للاستثمار وشركات أخرى عدة نطاقات وفرص واسعة للعمل والاستثمار والانتشار فى السوق الهندية بالغ الضخامة بقيمة استثمارات تبلغ ١٣ مليار دولار، وعلى الجانب الآخر تعتبر الهند ثانى شريك للإمارات بعد الصين حيث يبلغ حجم التبادل التجارى بين الدولتين ما قيمته ٦٠ مليار دولار سنويا، وتصدّر الإمارات إلى الهند ما قيمته ٢٧ مليار دولار سنويًا، بينما تبلغ صادرات الهند إلى الإمارات ٣٣ مليار دولار. ومن أبرز أوجه التعاون الاقتصادى بين الدولتين تأسيسهما «صندوق البنية التحتية الهندية الإماراتية» الذى يهدف إلى الوصول إلى رصيد قيمته ٧٥ مليار دولار. بينما تتبادل الدولتان إجمالى رحلات يومية تبلغ ١٣٥ رحلة جوية بإجمالى نحو ٩٥٠ رحلة جوية بين البلدين أسبوعيا، وتعكس المؤشرات الحالية عن طفرة ربما تشهدها العلاقات الثنائية على المدى القريب.
أنماط التعاون الأمنى
على خلفية التهديدات الأمنية المتصاعدة، وفى ظل تنامى ظهور الجماعات الراديكالية والتنظيمات الإرهابية، أصبح التعاون على المستوى الأمنى هو الأبرز فى علاقات الدول. فعلى مستوى العلاقات الهندية ـ الإماراتية تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات الثنائية ومذكرات التفاهم المشتركة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية والتحكم فيما يتعلق بتجريم التدفقات النقدية. وتجدر الإشارة فى هذا السياق إلى الحلف الاستراتيجى الذى يجمع الدولتين منذ عام ٢٠٠٣، حينما تم التوقيع خلال زيارة الشيخ «محمد بن زايد آل نهيان» للهند على اتفاقية تعاون استراتيجى فى مجالات الأمن والسياسة الدفاعية إلى جانب الالتزام بإجراء تمارين عسكرية وتدريبات دفاعية مشتركة لتطوير القدرات القتالية للطرفين.
شراكات الذكاء الاصطناعى
تم خلال الأسبوعين الماضيين إطلاق الشراكة الإستراتيجية بين الإمارات والهند فى مجال الأبحاث والاستثمار والشركات الناشئة فى قطاع الذكاء الاصطناعي، ويتوقع أن تبلغ أرباح هذه الاستثمارات حوالى ٢٠ بليون دولار خلال العشر سنوات الأولى من إطلاقها. وقد أكد الرئيس التنفيذى «للهيئة العامة للاستثمار» الهندية «ديباك باغلا» على أن الهدف من هذه الشراكة العمل على إنشاء تطبيقات مبتكرة تسهم فى رفع كفاءة الخدمات الحكومية إلى جانب تعزيز فاعلية القطاع الخاص. وفى هذا السياق سيتم تشكيل لجنة تسعى إلى الدفع نحو تطوير المجال البحثى بما يساهم فى زيادة عوائد هذا الاستثمار الجديد. وتشكل هذه الخطوة اتجاهًا مشتركًا نحو بلورة تقنيات الذكاء الاصطناعى باعتباره نواة تقدم وتطور المجتمعات والحرص المتبادل نحو إحداث تغييرات كبرى للوصول إلى مستويات معيشية أكثر حضارية.
إجمالًا؛ فقد استطاعت كل من الهند والإمارات أن يحققا التوازن والانفتاح الحضارى استنادا إلى أسس ومعايير التسامح والتناغم والاندماج بما لا يطغى على خصوصية الآخر أو حتى المساس بسيادته، ورغم التطورات الخطيرة التى تشهدها الساحة الدولية والتى تهدد الأمن والاستقرار العام، بل وأدت فى نماذج عدة إلى توترات ما بين الدول، إلا أن العلاقات الإماراتية الهندية تظل أنموذجا للسياسة الخارجية الناجحة المعتدلة، والتى انعكست بشكل واضح فى تعزيز المكانة الإقليمية لكلاهما، بل ويتوقع أن تشهد علاقات البلدين على المدى القريب مزيدا من التعاون والانفتاح القائم على أسس التعايش وتعزيز التسامح بين مختلف الشعوب.