الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محمود عزمي.. شهيد "السلطة الرابعة" في "الأمم المتحدة"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يقولون إن الإنسان يفضى إلى ما قدم، وكل منا يكتب نهايته عبر المسارات التى اجتازها خلال سنوات حياته، فخاتمة الفرد هى مشهد النهاية لفصول دنياه، وكما عاش الأستاذ محمود عزمى، الصحفى والدبلوماسى المصرى، حياته يبشر بالحق والحرية والعدالة، لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يدافع عن تلك المبادئ من على منبر الأمم المتحدة.
تولى رائد الصحافة المصرية محمود عزمى (1889- 1954) رئاسة وفد مصر الدائم فى الأمم المتحدة فى مثل هذه الأيام نهاية سبتمبر عام 1954، وأبى الرجل أن ينهى حياته إلا وهو يدافع عن قضايا وطنه وعن المبادئ التى عاش من أجلها، وودع الحياة فى نوفمبر من ذات العام، وهو يرد على كلمة مندوب إسرائيل فى مجلس الأمن حول احتجاج تل أبيب على احتجاز مصر السفينة «بات جاليم» بعد أن اعتدت على نقطة حراسة مصرية فى ساحل البحر الأحمر.
وقف عزمى على منبر مجلس الأمن يرد على مزاعم مندوب الكيان الصهيونى قائلًا: «إن مصر على حق وإنها كانت ولا تزال تؤثر روح التسامح، وعلى استعداد دائم لتحقيق العدالة»، ليصاب إثر انفعاله بأزمة قلبية ويسقط وتصعد روحه، وحدادًا على وفاته قررت الأمم المتحدة تنكيس أعلامها لمدة أسبوع، وأوقفت جميع لجان المنظمة أعمالها دقيقة واحدة، وألغت الوفود العربية جميع حفلاتها لمدة أسبوعين، وخصصت الجمعية العمومية جلسة رثاء لـ«المدافع الأول عن حرية الصحافة» استمعت فيها إلى كلمات 33 مندوبًا أشادوا فيها بجهوده.
كان عزمي، وبعد مشوار طويل فى شارع الصحافة، محررًا ومندوبًا ورئيسًا لتحرير العديد من الإصدارات الصحفية، وواضعًا اللبنة الأولى لمشروع نقابة الصحفيين، ومؤسسًا لمعهد الصحافة والترجمة، ورقيبًا على المطبوعات فى وقت الحرب العالمية الثانية، قد استقر به الحال كمدير للتشريع فى مصلحة الضرائب، حيث مثل مصر فى لجنة الضرائب الدولية التابعة لعصبة الأمم فى يونيو سنة 1939م، واستمرت هذه اللجنة بعد إنشاء الأمم المتحدة.
اختارت وزارة الخارجية المصرية عزمى ليمثل مصر بصفته الشخصية فى لجنة حرية تداول الأنباء الفرعية التابعة للمجلس الاقتصادى والاجتماعى بالأمم المتحدة عام 1949م، وقدم فى يونيو من ذات العام مشروعًا لتنظيم حرية تداول الأنباء يقضى بحماية المراسلين الأجانب.
ويرجع الفضل فى الوصول إلى عهد الشرف الدولى للصحفيين لمحررنا الصحفى محمود عزمى الذى قدم إلى لجنة حرية الأنباء نصوص مشروعه عام 1950، كقانون للسلوك المهنى للعاملين بالصحافة.
وفى يوليو عام 1951 قدم عزمى مع مندوبى فرنسا وكوبا وهولندا مشروعًا للجنة الاجتماعية يقضى بإنشاء لجنة من خبراء 15 دولة لوضع شروط اتفاق دولى لحرية الأنباء، وشارك فى مؤتمر الشئون الصحفية بمدينة إيفيان الفرنسية ممثلًا عن مصر وتحدث عن حق الصحفيين فى حرية البحث والتعبير فى كل مكان.
أدت مواقف عزمى فى لجنة حرية الأنباء إلى اعتباره المدافع الأول عن حرية الصحافة فى الأمم المتحدة، وكان لهذا أثر فى انتخابه رئيسًا للجنة عام 1952، وأقرت اللجنة فور ترأس عزمى لها عهد الشرف الدولى للصحفيين، ورفعته إلى المجلس الاقتصادى والاجتماعى ليقره فى نوفمبر عام 1952، ووافقت عليه الجمعية العامة رغم محاولات إجهاضه من بعض الدول الكبرى.
ومن المواقف المذكورة لعزمى فى لجان الأمم المتحدة، إنه وقف أمام مناورات الدول الكبرى لمحاولة إضافة فقرة جديدة إلى ميثاق حقوق الإنسان، تجعلها غير مُلزمة بتطبيق أحكام الميثاق فى المستعمرات فى البلاد غير المتمتعة بالحكم الذاتي، ورفض عزمى ذلك وأكد أنه استعاده لنظرية هتلر عن الاحتلال.
كما شارك فى صياغة مشروع العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأكد حق الشعوب فى تقرير مصيرها.
وعن علاقته بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل فى إحدى حلقات برنامجه على قناة الجزيرة «مع هيكل» عام 2006 إنه اصطحب معه عزمى إلى منزل عبدالناصر يوم 12 فبراير 1953م، وأثناء اللقاء طرح عزمى نظرية حياد مصر فى مفاوضاتها من أجل الاستقلال مع الإنجليز، وأن تدخل مصر إلى هذه المفاوضات لا من أجل الحديث عن الاستقلال، ولا الجلاء، وإنما من أجل مسألة قناة السويس.
ورأى عزمى أن تعلن مصر حيادها مثل حياد سويسرا، وبدأ عبدالناصر يناقش عزمى فى نفس مساره الفكرى ما أدهش كلًا من هيكل وعزمي، وبعدما خرجا من منزل عبدالناصر، أخبر عزمى هيكل أنه كان «أمام رجل يفكر وعنده حاجات».
كان هيكل شديد الإعجاب بمحمود عزمي، ووصفه فى كتابه «من نيويورك إلى كابول» بأنه «المرشد والمعلم»، واعتبره واحدًا من أهم العقول المصرية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين «كان رائدًا من رواد الكتابة الصحفية المتعمقة فى قضايا الشرعية والديمقراطية والتجديد».
وقال الأستاذ هيكل عن معلمه «تعرفت عليه فى أواخر الأربعينيات وأصبحت مدعوًا كل خميس إذا كنت فى مصر إلى بيته حيث يسكن مع زوجته الروسية، وكان بيته حافلًا بثلاثة مواقع قريبة من العقل والقلب: أولها كتب التراث العالمى، وثانيها الموسيقى الكلاسيكية، أما الثالث فهو تلك المدفأة التى تتحاور مع ألسنة النار فى ليالى الشتاء الباردة».
وفى عام 1951م كان محمود عزمى عضوًا فى الوفد المصرى لدى الأمم المتحدة وكان ناقمًا أشد النقمة وبلغ به الحنق كثيرًا من تصرفات السلطات الأمريكية معه عندما رفضت منح تأشيرة دخول له ولزوجته، رغم كونه عضوًا فى وفد مصر، لأن زوجته روسية الأصل، وكانت تلك السلطات تتعامل مع مواطنى روسيا وقتئذ على أنهم شيوعيون.
آمن صاحبنا على مدار حياته بالصحافة ودروها واعتبرها «معلمة الأمم» ووسيلة لتعريف الشعب بحقوقه وواجباته ولتربية الخلق ونشر الحميد من الصفات بين الجمهور، واعتبر الصحفى «مربيًا للخق العام ومعلمًا للرأى العام ومحاميًا عن المصلحة العامة»، وآمن أن حالة الصحافة فى بلد ما ميزان صحيح لحالة البلد ذاته من جميع جوانبه الثقافية والخلقية والسياسة.
دعا عزمى الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التعامل مع الصحافة باعتبارها «سلطة رابعة»، إلى جانب السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، «عليها تبعاتها فى توجيه الرأى العام ومراقبة ونقد ما يصدر عن السلطات الثلاث من أعمال، وأن تنبه الناس إلى أوجه النقص فى تلك الأعمال».