الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جدتي وخنزير أفلاطون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
يستوقف قارئ الفلسفة المتحمس الذى هو أنا، كون الأفكار البسيطة القاعدية أثبت على أديم الزمن من الأفكار العميقة الذكية التى ننعتها متباهين بأنها الأفكار «الفلسفية»... وغالبا ما كنت أتساءل عن سبب ميل الفلسفة إلى مراجعة مكتسباتها فى مسار يبدو أنه يتجاوز فكرة عدم تقديس الماضى الفلسفى إلى الفكرة المتطرفة التى هى بناء جديد، الفلسفة على أنقاض ماضيها وفقط على أنقاضها. فى حين نجد القاعدة التراكمية سارية المفعول فيما يتعلق بقناعات الناس البسيطة.
تنويعات
جدتي التى لم تكن تقرأ الفلسفة لأنها لم تكن تقرأ شيئا، والتى كنت أعتقد أنها تجهل كل شيء لكونها تجهل القراءة والكتابة، لأكتشف الآن بأنها كانت فوق كثير من أفعال القراءة، جدتى كانت تعبر عن استغرابها لكثرة القتل فى البرامج التليفزيونية التى أشاهدها، وكانت تتساءل عن القاتل الذى تنهك الكاميرا نفسها فى تتبع آثاره والكشف عن مسارات الجريمة: ما الذى دفعه إلى القتل؟ (هى بالدارجة الجيجلية أفضل بكثير طبعا). 
وتعتقد أن الإنسان إذا قتل شخصًا لا بد أن يتعرض للقتل ذات يوم. يقين يسكنها يدفعها إلى الميل صوب السلام واحترام حريات الآخرين وحرماتهم وحدودهم الحيوية دون أن يكون لمفاهيمها الصامتة هذا العتاد اللغوى وهذه الترسانة المصطلحية التى تسحرنا فننشغل باشتغالها عن شغلها الحقيقى الذى هو الدلالة على ما تقوله جدتي.
كانت جدتى تستغرب لرؤيتى غارقا فى الكتب. الرأس خلق ليكون مرفوعا شامخا. «هؤلاء الذين يدرسون كثيرا يطأطئون رأسهم كثيرا. وهذا شيء سيئ لأنه وحده الخنزير يطأطئ رأسه ولا يرفعه أبدا، والرأس المطأطأة تولع دائما بالوسخ وتنسى الأخلاق الحسنة»... كان هذا رأيها فينا نحن المثقفين.
جدتى لا تطرح الأسئلة بل تقول جملا خبرية حمالة حقائق لا حمالة أوجه، كان كارل ياسبرز يقف فى ذهنى دائما فى مقابل وعى جدتى «شبه» الفلسفي؛ فحينما يكرر هو «علينا أن نحول كل إجابة إلى أفق محتمل لسؤال»، تقول هى: «الأمور واضحة بالنسبة إلي، لا داعي للإكثار من الكلام. نقطة إلى السطر»، فإذا اعترض عليها ياسبرز بحجة أن الحقائق الكبرى، وبخاصة التطور العلمى والمعرفى، كل ذلك قد جاء كآفاق لأسئلة جديدة لم تكن متوقعة أصلا، تعترض هى مستعملة حجتها الأقوى: إجماع الناس على رأيها «اسأل أى شخص سيقول لك ذلك، ابن آدم معروف لا داعى للتفلسف فى أمره».
كنت أود فى تلك اللحظات أن أقول لها: إن ما تقوله هو عين الفلسفة، وكنت أود أن أستعرض أمامها محفوظاتى الفلسفية المهمة، مونتينى وهو ينقل عن الرومانى تيرنس: «أنا إنسان، ولا شيء من أمور الإنسان يخفى علي»... بل إنه كان يحدث لى أن أجد كلامها خيرا من كلام الفيلسوف الفرنسى جورج كانغيلام المشعور بتفرقته بين السليم والمريض، أو بين السوى والشاذ؛ هو الذى عمل كثيرا على تشويهات الحروب للنفس البشرية، لكى يصل فى الأخير إلى أن «الحالة المرضية ليست سوى تحوير كمى أحيانا ونوعى أحيانا أخرى للحالة السوية».
وحتى عندما تجعل جدتى تتحدث عن كلبها وهو يفعل ما لا يروقها، تقول: «يا له من يهودي، دائما يصر على فعل المنكرات ثم يعود إلىّ متذللا»، أو تتحدث عن حبات الزيتون العصية فى أعلى الزيتونة، والتى لا تسقطها عصا الجنى فى موسم جنى الزيتون، تقول: «هذه الحبة بنت السلطان، كل صواحبها سقطن إلا هى تتأبى»...
كنت دائما أفكر فى موضوع لم أجد له إجابة هو تصور جدتى لنفسها، هى المؤمنة العتيقة العريقة التى لا يعترضها أمر إلا وردته إلى ربها؛ خالقها وباريها، جدتى التى تستعمل صورة جميلة لكلبها واصفة إياه بأنه «دائما يطأطئ راسه مثل الخنزيز الخائن»..
الخنزير الخائن
لا بد أن صورة الخيانة هى نمط فكرى شائع بسبب سنوات الثورة وحرب التحرير التى استحوذت على ذكرياتها كلها، أما الخنزير المطأطئ لرأسه فغريب أمره، من منطلق أن أفلاطون قد وصف الخنزير بالحقارة المعنوية بعدما تفنن غيره فى وصف دنسه المادى الواضح. أفلاطون يرى أن الخنزير عاجز- طبيعيا- عن رفع رأسه إلى الأعلى، وهذا ما يمنعه من الاطلاع إلى السماء وإدراك كل ما هو متعال.
حينما قلت هذا الكلام لجدتى عبست وقالت لي: «قد يرفع الخنزير رأسه ولكنه لن يعبد الله... وليس مطالبا بعبادته، إضافة إلى أن كثيرا من الناس يرفعون رأسهم صوبه سبحانه باستمرار ولا يعبدونه بالضرورة بعد أن يروا السحب أو الشمس... أفلاطون هذا حمار!».
وستستنتج وحدك بأن جدتى أقرب إلى فكر بروتاغوراس، وهو يقول: «إن الإنسان مقياس كل شيء»... فمرجع الحقيقة عند جدتى هى الإنسان والواقع والتجارب التاريخية التى أثبتت نجاعتها وصلاحيتها.
زبدة القول
للحظة، وللحظة عريقة فى الفلسفة وفى الروح الإنسانية، أرى جدتى تقف قاب قوسين أو أدنى من دينيس ديدرو، وهو يقدم صورته الجميلة فى محاوراته مع شريكه فى الموسوعة وصفيه وصوته الفلسفى الآخر «لوى دالامبير»؛ كان يقول: «تلك اللحظة المجنونة النابية التى ظن فيها المعزف بأنه المعزف الوحيد على وجه الأرض، وأن كل تناغم العالم إنما يحدث فيه».
ترى هل أن لجدتى وعيا عميقا بالأشياء كان يفضل الصمت والعمل فى صمت على الجعجعة التى تملؤنا فنفرغ من كل ما هو أساسي؟