الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الغزالي والمثقف الواعي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يتردد قلمى فى استيقافى مستفسرا أو معقبا على إحدى المسائل أو القضايا التى أمليه إياها خلال متابعتى لحوارات الشياب مع الشبان، وها هو يتساءل: ما هى العلة الكامنة وراء تشابه مضامين نصائح الشياب للشباب على لسان هرمس وبوذا وكونفوشيوس؟ فأجبته: أن هناك عدة أسباب لذلك التشابه، أولها: التأثير المباشر أى اطلاع المتأخر على ما كتبه المتقدم، وثانيها: علة لزومية إذا ما تشابهت الأوضاع والأحداث وتماثلت أقوال الفلاسفة والمصلحين وطرائقهم فى السرد والمعالجة، وثالثها: وجود مصدر ثابت أو عقل أعلى يلهم أولئك الفلاسفة ما أوردوه فى نصائحهم وإرشاداتهم (موروثات تليدة، وحى سماوى، أعراف وتقاليد سائدة). والحجة فى ذلك كله هى الدليل على وجود تأثر أو تشابه البنيات الثقافية أو افتراض وجود نص تليد تخطت تعاليمه الزمان والمكان، ولا يمكننا على وجه القطع تغليب أحد هذه الأسباب واعتباره علة مباشرة لتكرار خطابات الشياب، أو إن شئت قل الحكماء فى مصر والهند والصين. وينزع المحللون المعاصرون إلى أن علم تاريخ الأفكار قد نجح إلى حد ما فى تفسير ذلك التشابه، وذلك عن طريق رصد الفكرة دون أن يدلل على علة تكرارها عند هذا الحكيم أو ذاك، واكتفى بتحديد الحقبة الزمانية والحقل المعرفى الذى أنتجها. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نقرر أن ما ذهب إليه «هرمس» فى الحضارة المصرية لا يختلف كثيرا عن تلك المحاورات التى أجراها بوذا أو سقراط أو لقمان الحكيم، أو ما جاء فى الأسفار المقدسة على لسان موسى وعيسى، أو فى كتابات الغزالى أو برتراند رسل وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين، والقضية لا تكمن فى تكرار أو تشابه تعاليم الشياب، بل تبدو فى تمرد الشباب على صيغ النصح (افعل ولا تفعل).
وإذا ما انتقلنا من الحضارات الشرقية القديمة إلى وصايا لقمان الحكيم، -ذلك الذى اختلف المؤرخون حول نسبه وزمانه، فقيل أنه لقمان بن باعور بن باخور بن تارخ، وذكر المسعودى أنه لقمان بن عنقاء بن مربد بن صاوون، وقيل إنه ابن أخت النبى أيوب، وقيل أنه نوبيا من مصر أو حبشيا- سوف نجد أن وصيته لابنه لا تختلف فى بنيتها الأخلاقية عما أوردناه عند حكماء الشرق، فقد أورد القرآن بعض نصائحه فى سورة لقمان، ومجملها فى الأخلاقيات العامة والسلوك الذى يجب على الشبيبة فعله. 
وإذا ما انتقلنا من وصايا لقمان إلى نصائح أبى حامد الغزالى تلك التى عنونها بـ(أيها الولد)، فسوف تستوقفنا بعض المسائل، أولها: أن الشاب هو الذى ذهب إلى الغزالى (1058-1111م) يسأله جوابا شافيا عما يجب عليه فعله وما ينبغى تركه بعد أن قطع شوطا طويلا فى تحصيل المعارف، حتى تكتب له السعادة فى الدنيا والآخرة، ويكون قد عمل فى حياته ما يجب عليه فعله، وها هى كلمات ذلك الشاب المريد «مقصودى أن يكتب الشيخ حاجتى فى ورقات تكون معى مدة حياتى، وأعمل بما فيها مدة عمرى إن شاء الله تعالى».
والمسألة الثانية: هى رد الغزالى، إذ بين أن أسلوب النصح غير مجدى إذ لم يكن هناك استعداد من السائل لقبوله، أى أنه أراد أن يوجه نصائحه إلى الشبيبة التى تطلب نصائح الشياب بإرادة حرة وعقلية واعية وقناعة كاملة بأن حكمة الشياب نافعة ومفيدة. 
وها هى كلمات الغزالى: «النصيحة سهلة، والمشكل قبولها، لأنها فى مذاق متبع الهوى مر، إذ المناهى محبوبة فى قلوبهم، على الخصوص لمن كان طالب علم مشتغلا فى فضل النفس ومناقب الدنيا». 
أما المسألة الثالثة: فتبدو فى مضمون المحاورة، فمعظم أسئلة الشاب كانت حول الواقع المعيش، أى أنه طلب آليات تطبيقية عملية وليس تعاليم أو قيم مثالية عقلية مجردة. وإليك عزيزى القارئ الأسئلة التى ساقها الشاب إلى الشيخ: ما هو العلم النافع؟ وهل العلم والمعرفة والدراية وسعة الاطلاع تطلب لذاتها أم لمنفعة مباشرة؟ فأجاب الغزالى مستشهدا ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم العملية الصوفية: «إن العلم النافع هو الذى لا يفصله عن العمل شىء، فالعلم بلا عمل لا يكون، والعمل بلا علم ضرب من الجنون. فماذا يجدى علم المرء بأسماء السيوف وأشكالها دون أن يتدرب على استخدامها أمام عدو غاصب أو أسد مفترس؟ 
وهل تطلب الجنة بقول اللسان أم بالعمل بالأركان؟ وما جدوى ترديد الآيات وقراءة وحفظ مئات الكتب دون أن يفعل ما فيها من خير فيثمر نفعا وصلاحا وينأى عن الشر والضرر ومحاربة الهوى كفاحا؟». 
«أيها الولد: ينبغى لك أن يكون قولك وفعلك موافقا للشرع، إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة، واعلم أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة، واعلم أن بعض مسائلك التى سألتنى عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هى، وإلا فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيا لا يستقيم وصفه بالقول كحلاوة الحلو ومرارة المر لا يعرف إلا بالذوق». 
وللحديث بقية حول حديث الغزالى