الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

سعيد شحاتة يكتب.. في الصف الأول الابتدائي

سعيد شحاتة
سعيد شحاتة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في السادسة من عمري اصطحبني أبي إلى أول طابور دراسي وتركني لرجل طويل معقوف الأنف، ثرثار، سالك الحنجرة، فارع القامة، تركني له بعد أن نظر هذا الطويل إلى كشف أطول من ساقيه وقال: سعيد حامد عبدالسلام..
استدرت يمينًا ويسارًا وأصابني الخرس والوجوم والتطلع لمعرفة صاحب الاسم المقارب لاسمي، فإذا بالريس حامد أبي يقول: نعم، أهه.. مشيرًا إلى أن ذلك الفسل الذي اصطحبه، اندهشت وسألته أوّل سؤال وجودي سألته في حياتي: من هذا العبدالسلام؟ 
وكررت: أنا سعيد حامد شحاتة يا أبي.. من هذا العبدالسلام؟ 
ضحك الخمسيني المريض وضغط على كتفي وودعني دون أن يجيبني وذهب، وقفت بين زملائي الذين لا أعرفهم في صفٍ واحد، وإذ بهذا الرجل يصرخ فينا أن انتظموا كزملائكم الأكبر منكم سنًّا، ننتظم كزملائنا، وتبدأ تمارين الصباح الذي يتبعها المدرس بصرخته المدوّية: سباعية استعد.. ثم يصمت برهة ليصرخ مجددًا: ابتدي. 
يصفّق زملاؤنا الكبار تصفيقًا غريبًا منتظمًا: تك تك تك| تك تك تك| تك تك تك تك تك تك تك| تك، تك، تك.. ثم يتبعها بتحية العلم: (يا شباب مصر، هذا علمكم الصاعد، يرفرف فوق سماء الحريّة، يعلو فتعلو معه أعلام الأمّة العربية، فهيّا معي حيّوا هذا العلم.. الله أكبر تحيا مصر، الله أكبر تحيا مصر، الله أكبر تحيا مصر..) هكذا انتهى الطابور بعد أن حيّا العلم أحد زملائنا الكبار وأدينا تحيته خلفه مرددين ما قال.. دخلت الفصل فنادوني بنفس الاسم الذي ذكر في طابور الصباح، فلم أجد من يرد عني فانتظرت إلى أن قال الطويل معقوف الأنف: الولد هرب؟ فقلت له: أنا هنا.. أنا سعيد يا أفندم وأرغب في الذهاب إلى الكابنيه.
ضحك معقوف الأنف وأخذ يتفلسف وهو يردد: هل جئتنا مزنوقًا أيها السعيد؟ ما معنى كلمة الكابنيه؟
أجبته بجرأة: الحمّام، في الحضانة علّمونا أن الحمّام اسمه الكابنيه.. وأمي قالت لي لمّا تنزنق قل لهم أنا عايز أروح الكابنيه.
أذن لي بذلك –بعد أن تعالت ضحكاته الساخرة- فخرجت أتفحّص المكان، أحفر حفرة هنا وأحمل المياه لأصنع قاربًا ورقيًّا وأسلّمه لبحيرتي الصغيرة، أمد يديّ إلى الأشجار العالية لأتعلّق بها، أرسم ملعب كرة قدم هناك وألعب حتى يغلبني التعب، عالم جديد وغريب لكنه موحش بالنسبة للبرلسي الذي يسكنني.
بعد عام طويل من دراسة الغرابة في وجوه التلاميذ الباكين والمدرسين المتسلطين والناظر المتجبر الطيّب في بعض الأوقات.. توقّفت أمام أبي الخمسيني الذي فقد عامًا هو الآخر من عدّاد عمره التنازلي، وقفت أتفحصه وهو يقاوم المحتل الذي اقتحم جسده ورفض الخروج منه إلا بعد أن يقضي عليه تمامًا، حرب شعواء بين عظامه المنهكة وبين هذا الغاشم، مقاومة بين أعضائه وبين مستوطنها الغريب لا يصفها إلا شاعر فحل، في هذه الفترة إلى جانب المقاومة الشرسة كان يعلمني 2+2=4... 2+3=5 وأنا أعلّمه السباعية وتحيّة العلم.
أمي الثلاثينية سعيدة بما يحدث لأنها لا تراه بهذه الحيوية إلا في هذا الوقت من الصباح، وهو يعلمني ما تيسر له من عمليات الجمع والطرح.. تضحك ودموعها تبرق في عينيها لكنها تحاول إخفاءهما بالتصفيق معي.. 
قبل ظهور نتيجة الصف الأول بأيام طلب منّي أبي، ذلك الصياد الذي تمكن منه الوجع حد الموت أن أذهب لإحضار شهادة نجاحي، وأخبرني أنه سيحزن كثيرًا إذا لم أكن الأوّل على المدرسة، وعدْتُه بذلك وجريت بصحبة زميلين "تلميذ وتلميذة" من نفس الشارع، بعد أن وصلنا إلى هناك دخلت الزميلة وبعدها الزميل وجاء دوري في الصف بعدهما، شعرت بأن العالم يتهدم فوق رأسي، وأنني لم أفِ بما وعدت به صديقي الخمسيني، أخذت شهادتي وذهبت باكيًا قائلا له: أنا طلعت التالت الولد والبنت دورهم كان قبلي في الصف وتسلموا شهايدهم قبلي.
ظهرت على وجهه علامات حزن لم تدم طويلا، وهنّأني وضحك وهو يقول: هات الشهادة أمّا أبوسها؛ 
قبّل شهادتي، وطلب منّي أن أحتفظ بها.

.......... كتبت هذا الموقف نصًّا في ديوان "للأنبيا حواديت" في هذا المقطع: 
(والدي ما شافنيش لمّا انا باكتب "أمَل أطوَل" 
ولا قالّيش "عُمَر راجل.. عُمَر طبعًا أكيد أطول عشان راجل" وعنّفني عشان أنصفت طول البنت عن طول الولد.
والدي ما باسنيش في الجبين يوم النجاح ولا جابلي نجمه وحطهالي ف فاظه ع العَتبه 
ولا قاللي هتنبّت نجوم الصبح 
والدي ما غمّاش القمر بدراعه واتعازم وشد الشمس من آخر ضفيره وأجبر النور ع الصمود بالليل 
والدي يادوب ادّاني جوز قناديل وقال لامي الولد لازم يكون زي السما ساعة أدان الضهر.. 
زي الرمل في الصحرا.. 
كما سيف خالد البتّار في وش الظالم الجاي يرتجل أكاذيب.
والدي يادوب حزّم شواشي الضيّ في عروقه ورسم لي على الحيطان دوّامة البحر وملامح شاعر الثوره/
ونفخ في صدري المرجلَه والحق. 
طعم البطاطا ف حلقي زي الصبر
وانا لسّه عيّل ودّوا أبويا القبر...
وقالولي جاي تاني... 
جايب معاه غزل البنات وحلاوة المولد وسر ملايكه الخندق وراس إبليس... 
جايب معاه سمك البرلّس
والقلوع المخلصه/ وأوراد ساعات الفجر/ والتواشيح/ وشيح للآفَه قبل ما تتفرد في الشقّ وتعض الرئيس..
جايب معاه فَرَس السبق 
ومشنّة النعناع
وكوز رمّان وحلّة فتّه.. 
وجناح طيره قناصها اتعوج منه السلاح ساعة النشان/ فضرب في وش الصبح طلقة خوف/ بدل ما يصيب غصون العسكري المحتل.. صاب العاصمه المحميّه بالدعوات وأنّات الصبايا البكر والروح الأمين...
جايب معاه غزّة وحَلب وجنين وشربات اليمن 
جايب معاه ريّوقه من فرن العراق
جايب معاه ترياق وعيش ورقاق 
ومِش بدوده مش حادق ولا حرّاق
وأشواق من أُسُود ونياق
وزمزم طُهْر واستنشاق
لكل اللي ابتلى بالعشق واستشهد من العشاق
جايب معاه خلاخيل
ونيل وشعار نبيل لمواجهة الخيل المصمم ع الصمود ف جبال أُحد
وانا لسّه عيّل شفتني في الجنّه بعد نزولي م الحالب.. قصيده صغيّره تشبه قصايد أبويا في طلوع المراكب من شطوط البغدده لمواجهة الموت في انسحاب الموج على جثث البحيرات الغريبه المُثْقله بالحزن والخوازيق.
والدي المعافر كان يقوم الصبح يغسل وشّه من روحي وملامحي/ ويبتدي يحكيلي عن عمي اللي شال الشومه واتعازم وشق دماغ بتاع المركب الجاي من نواحي الشرق يشْتم صيادين المركب الغربي. 
كان بالنهار الصبح يفطر من عسل ريق الولد ويقول لي لازم تطلع الأوّل 
يوم الشهادة الأولى رُحْت المدرسة بعد الولد والبنت/ وحزنت إن أنا ما سبقتهمش عشان أكون أوّل ولد ياخد شهادته ويجري على الوالد يطالبه بقرش ساغ.