الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الديمقراطية الغربية مهددة بالانهيار

الكاتب والمفكر فرانسيس
الكاتب والمفكر فرانسيس فوكوياما
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«لن يتوقف الناس عن التفكير فى أنفسهم ومجتمعاتهم من منظور الهوية، لكن هويات الأشخاص ليست ثابتة ولا تُمنح بالضرورة بسبب الميلاد، ويمكن استخدام الهوية للتمييز بينهم، كما يمكن استخدامها أيضًا لتوحيدهم، وهذا فى النهاية سيكون العلاج للسياسات الشعبوية المنتشرة فى الوقت الحاضر»، تلك هى خاتمة المقال المنشورة للكاتب والمفكر فرانسيس فوكوياما فى مجلة «فورين أفيرز»، فى سبتمبر ٢٠١٨، تحت عنوان «ضد سياسة الهوية: القبلية الجديدة وأزمة الديمقراطية» ويحاول «فوكوياما» تناول أزمة الديمقراطية الغربية التى تصاعدت بشكل لافت للنظر فى العقود الماضية، من أجل تقديم تشريح للموقف الراهن، إلى جانب تفسير العوامل التى أدت لذلك، وكيف يمكن معالجة الأمر.
بداية الأزمة
يبدأ الكاتب باستعراض ملامح موجة التحول التى اجتاحت السياسة العالمية منذ السبعينيات من القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الحالي، التى تمثلت فى ارتفاع عدد الديمقراطيات الانتخابية من ٣٥ إلى أكثر من ١١٠، وصاحب ذلك تضاعف إنتاج السلع والخدمات فى العالم أربع مرات، وانخفاض فى نسبة الأفراد الذين يعيشون فى الفقر المدقع من ٤٢٪ من إجمالى سكان العالم عام ١٩٩٣ إلى ١٨٪ عام ٢٠٠٨. ويرى الكاتب أن تلك التغيرات سالفة الذكر لم يستفد منها الجميع، وبالتحديد فى الديمقراطيات المتقدمة، التى ازداد فيها حجم التفاوت الاقتصادى بشكل كبير، حيث تدفقت فوائد النمو فى المقام الأول إلى الأثرياء والمتعلمين، وفى البلدان النامية، وجد القرويون الذين لم تكن لديهم كهرباء فى السابق أنفسهم يعيشون فى المدن الكبيرة، ويشاهدون التليفزيون ويتصلون بالإنترنت، كما ظهرت شرائح جديدة من الطبقات المتوسطة فى الهند والصين، أصبحوا يعملون فى المجالات ذاتها التى عمل بها أصحاب الطبقات الوسطى القديمة فى العالم المتقدم. وفى خضم تلك التحولات، انتقل التصنيع من الولايات المتحدة وأوروبا إلى شرق آسيا وغيرها من المناطق ذات العمالة المنخفضة التكاليف، واستُبدل الرجال بالنساء فى سوق العمل المرتبط بصناعات الخدمات، وحلت الآلة محل العمال ذوى المهارات المنخفضة. وفى النهاية، أفرزت تلك التغييرات تباطؤًا فى حركة النظام العالمى نحو الانفتاح والليبرالية، بما فتح الباب عليه ليتلقى أعنف الأزمات فجاءت الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨ وأزمة اليورو ٢٠٠٩ لتُبرز عمق التحولات، ففى كلتا الحالتين أنتجت السياسات التى وضعتها النخبة حالات ركود هائلة، وارتفاع فى معدلات البطالة، وانخفاض الدخول، وبما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى هما النموذجان الرائدان للديمقراطية الليبرالية؛ فإن تلك الأزمات أضرت بسمعة ذلك النظام.
وكان من نتائج ما حدث، أن تراجعت الديمقراطية فى جميع مناطق العالم تقريبًا، فى الوقت نفسه الذى قدمت فيه عدد من الدول السلطوية كالصين وروسيا نموذجًا أكثر تماسكًا، وهو ما دفع عددا من الدول كالمجر وبولندا وتركيا وتايلاند، التى بدت ديمقراطيات ليبرالية ناجحة خلال تسعينيات القرن الماضى، للانزلاق تجاه السلطوية.
ثم جاء صعود الشعبوية فى الانتخابات التى أُجريت عام ٢٠١٦ فى اثنين من أقوى الديمقراطيات الليبرالية فى العالم، ليؤكد التراجع بشكل أوضح، فقيام الناخبين فى المملكة المتحدة باختيار مغادرة الاتحاد الأوروبي، ثم وصول دونالد ترامب إلى الحكم فى أمريكا، قدما الحقيقة بزاوية أخرى.
تنامى سياسة الهوية
يوضح «فوكوياما» أن تلك التطورات، وإن كانت مرتبطة فى جزء منها بالتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية للعولمة، لكنها مرتبطة أيضًا بصعود سياسة الهوية، فطوال القرن العشرين، تركزت سياسات اليسار على العمال والنقابات وبرامج الرعاية الاجتماعية وسياسات إعادة التوزيع، أما اليمين فكان مهتمًا بخفض حجم الحكومة وتعزيز القطاع الخاص. والآن، فى العديد من الديمقراطيات، أصبح اليسار يُركز بشكل أقل على خلق مساواة اقتصادية واسعة، وبشكل أكبر على تعزيز مصالح الجماعات المهمشة مثل الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين والمثليين، كما أعاد اليمين تحديد مهمته الأساسية كحامٍ للهوية الوطنية التقليدية، وهو ما يعنى أن سياسة الهوية أصبحت تُفسر الكثير مما يجرى فى الشئون العالمية.
وفى هذا الصدد، قام القادة السياسيون بتعبئة أتباعهم حول فكرة أن كرامتهم تعرضت للإهانة ويجب استعادتها، رغم أن هذه الطعون هى قبعة قديمة للنظم السلطوية، فتحدث الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عن مأساة انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتقد الولايات المتحدة وأوروبا لاستغلال ضعف روسيا خلال التسعينيات لتوسيع حلف الناتو، وأيضًا استغل نفس الأمر الرئيس الصينى «شى جين بينج»، الذى ألمح لما سمّاه «قرن الإذلال» لبلده، وهى فترة الهيمنة الأجنبية التى بدأت عام ١٨٣٩.
وتحولت فكرة الاستياء من الإهانات لتصبح قوة مؤثرة فى الدول الديمقراطية، فنجد حركة «حياة السود مهمة» تندد بعمليات القتل التى قامت بها الشرطة ضد الأمريكيين الأفارقة، وحظيت بتغطية إعلامية واسعة، والأمر ذاته بالنسبة لحقوق المتحولين جنسيًا، التى لاقت كثيرًا من الاهتمام، برغم عدم الاعتراف بها على نطاق واسع فى السابق.
إذًا لم تعد سياسة الهوية ظاهرة ثانوية، بل أصبحت مفهومًا رئيسيًا يشرح الكثير مما يجرى فى السياسة الدولية، بما يفرض تحديًا كبيرًا على الديمقراطيات الليبرالية الحديثة، فالعولمة بما تزامن معها من تغيرات فى البنائين الاقتصادى والاجتماعى لتلك المجتمعات، خلقت مطالب من جانب الجماعات المكونة لها للاعتراف بهم، أدت إلى حالة من الاحتقان بين مكونات البناء الاجتماعي، أسفرت عن تفكك المجتمعات الديمقراطية إلى شرائح تستند إلى هويات أضيق، لن تؤدى فى النهاية لشيء سوى انهيار الدولة.
لماذا ظهرت الديمقراطية؟
يفترض معظم الاقتصاديين أن البشر مدفوعون بالرغبة للحصول على الموارد المادية، ورغم أن هذا المفهوم للسلوك البشرى له جذور عميقة فى الفكر السياسى الغربي، لكنه يغفل عن حقيقة أخرى أدركها الفلاسفة الكلاسيك، وهى الرغبة فى صون الكرامة، التى اعتقد سقراط أنها تُشكل «جزءًا ثالثًا» لا يتجزأ من النفس البشرية، وأطلق عليها أفلاطون فى الجمهورية «ثيموس» «thymos».
ويُميز فوكوياما بين شكلين من الثيموس، ما سماه «megalothymia» وتعنى الرغبة فى الحصول على الاعتراف بأنك متفوق، والمثال على ذلك مجتمعات ما قبل الديمقراطية التى كانت قائمة على التسلسل الهرمي، والإيمان بالتفوق المتأصل لطبقة معينة كالنبلاء والأرستقراطيين، وتُعد المشكلة الأساسية بها هى نظرتهم لباقى المجتمع على أنهم أقل شأنًا، بما يولد شعورا قويا للناس بالاستياء، والرغبة فى أن يُنظر إليهم على أنهم جيدون مثل الآخرين، ذلك الشعور يُطلق عليه الكاتب «isothymia». وصعود الديمقراطية كما يوضح ما هو إلا انتصار الـ «isothymia» على الـ «megalothymia»؛ حيث تم استبدال المجتمعات التى تعترف بحقوق عدد قليل من النخب بأخرى تعترف بأن الجميع متساوون بطبيعتهم، وهو ما حدث خلال القرن العشرين، بدأت المجتمعات المُقسمة طبقيًا بالاعتراف بحقوق الناس العاديين.
فعلى مدار التاريخ السياسى للولايات المتحدة، كانت هناك مطالب بأن يوسع النظام السياسى دائرة الأفراد الذين تعترف بهم كبشر كاملين، ومع ذلك لم تؤد المساواة بموجب القانون إلى مساواة اقتصادية أو اجتماعية، فازدادت التفاوتات فى الدخل بشكل كبير خلال الثلاثين عامًا الماضية.
الشعبوية بديلًا
أسهمت تلك التهديدات للوضع الاقتصادى فى تفسير صعود النزعة الشعبوية فى الولايات المتحدة وخارجها، فلم تكن الطبقة العاملة الأمريكية - التى تم تعريفها على أنها أشخاص لديهم تعليم ثانوى أو أقل- فى وضع جيد طوال العقود الأخيرة، وهذا الأمر لم يقتصر على الانخفاض فى الدخول وخسارة الوظائف، بل أدى إلى حالة من الانهيار الاجتماعى أيضًا. ورغم أن ذلك لم يكن بالجديد على الأمريكيين الأفارقة؛ فإن الجديد انتقاله إلى الطبقة العاملة البيضاء، لذا كانت أحد أهم الأسباب الرئيسية التى دفعت الكثير لانتخاب ترامب، هو خوفهم من فقدان وضعهم الاجتماعي.
وفشلت الأحزاب اليسارية المعاصرة فى التحدث إلى الأشخاص الذين فقدوا أوضاعهم النسبية نتيجة العولمة والتغير التكنولوجي، فخلال حقبة العولمة حولت معظم الأحزاب اليسارية استراتيجيتها، وبدلًا من بناء التضامن حول الطبقة العاملة أو المُستغلين اقتصاديًا، بدأوا التركيز على مجموعات أصغر.
وفى الستينيات، ظهرت حركات اجتماعية جديدة فى الديمقراطيات الغربية، وطالب نشطاء الحقوق المدنية فى الولايات المتحدة بأن تحقق البلاد وعد المساواة الذى جاء فى إعلان الاستقلال، ثم جاءت الحركة النسوية، التى سعت إلى معاملة متساوية للنساء، وعملت الحركة البيئية على إعادة تشكيل المواقف تجاه الطبيعة. ويُشير الكاتب إلى أن السنوات اللاحقة ستشهد تحركات جديدة تُعزز حقوق المعاقين والأمريكيين الأصليين والمهاجرين والمثليين من الرجال والنساء، وكذلك الأشخاص المتحولين جنسيًا، ومع تغير القوانين لتوفير مزيد من الفرص وحماية قانونية أقوى للمهمشين، استمرت المجموعات فى الاختلاف عن بعضها البعض فى سلوكها وأدائها وثروتها وتقاليدها وعاداتها.
وكان أمام كل مجموعة أن تختار أى من البديلين، إما أن تطلب من المجتمع معاملة أعضائها بالطريقة نفسها التى يُعامل بها أعضاء الجماعات المهيمنة، أو أن يؤكد هوية منفصلة لأعضائها ويطالب باحترامهم على أنهم مختلفون عن المجتمع السائد، وبمرور الوقت، كانت الاستراتيجية الأخيرة هى الأكثر تفضيلًا.
وطالبت المجموعات المهمشة بشكل متزايد ليس فقط بأن تعاملها القوانين والمؤسسات على أنها تتساوى مع الجماعات المسيطرة، بل إن المجتمع الأوسع يدرك ويحتفل حتى بالفوارق الجوهرية التى تميزها.
وأصبح مصطلح «تعدد الثقافات» - الذى يشير أصلا إلى مجرد نوع من المجتمعات المتنوعة - علامة على برنامج سياسى يقدر كل ثقافة منفصلة وكل تجربة تعيش على قدم المساواة، فى بعض الأحيان من خلال جذب اهتمام خاص لتلك التى كانت غير مرئية أو مقومة بأقل من قيمتها فى الماضي.
ودار هذا النوع من التعددية الثقافية فى البداية حول مجموعات ثقافية كبيرة، مثل الكنديين الناطقين بالفرنسية، أو المهاجرين المسلمين، أو الأمريكيين الأفارقة، ثم سرعان ما أصبح رؤية لمجتمع مقسم إلى العديد من المجموعات الصغيرة ذات الخبرات المتميزة.
من اليسار إلى اليمين
يرى الكاتب، أن اليسار بدأ فى اعتناق التعددية الثقافية فى أعقاب تحول المجتمعات الشيوعية فى الصين والاتحاد السوفيتى إلى دكتاتوريات قمعية، إلى جانب اتجاه الطبقة العاملة فى معظم الديمقراطيات الصناعية لتصبح أكثر ثراءً وقيامها بالاندماج مع الطبقة الوسطى.
وبدت أحلام اليسار فى الوصول إلى دولة الرفاهية فى التراجع نتيجة الأزمات المالية والتضخم خلال فترة السبعينيات، ومع تحول الصين نحو اقتصاد السوق بعد عام ١٩٧٨، وانهيار الاتحاد السوفيتى عام ١٩٩١، انحسر الماركسيون إلى حد كبير، لذا تقلصت طموحات اليسار فى الإصلاح الاجتماعي- الاقتصادى مع احتضانه لسياسات الهوية فى العقود الأخيرة من القرن العشرين؛ حيث تحول جدول أعماله من التركيز على الطبقة العاملة إلى مطالب دائرة متزايدة الاتساع من الأقليات المهمشة.
وتُشكل سياسة الهوية فى اليسار تهديدًا لحرية التعبير ونوع الخطاب العقلانى اللازم للحفاظ على الديمقراطية، ويُعد أسوأ ما أنتجته سياسة الهوية التى يُمارسها اليسار حاليًا هى أنها حفزت صعود سياسة الهوية لليمين، ويرجع هذا فى جزء كبير منه إلى احتضان اليسار للصواب السياسى political correctness، وهو مصطلح يهدف إلى تجنب اللغة أو السلوك الذى يمكن اعتباره استبعادًا أو تهميشًا لمجموعات من الأشخاص الذين يُعتبرون محرومين أو مُميزًا ضدهم، خاصة المجموعات المحددة حسب الجنس أو العرق.
على صعيد آخر، جاء وصول «ترامب» ليعكس احتضان اليمين لسياسات الهوية، فيشعُر العديد من أنصاره من الطبقة العاملة البيضاء أن النخب أهملتهم لسنوات، كما يرى الذين يعيشون فى المناطق الريفية، الذين هم العمود الفقرى للحركات الشعبوية، أن قيمتهم أصبحت مهددة، رغم كونهم ينتمون لجماعة عرقية مهيمنة، وقد مهدت هذه المشاعر الطريق لظهور سياسة الهوية اليمينية، التى تأخذ شكل القومية البيضاء العنصرية الصريحة، وأسهم ترامب بشكل مباشر فى هذه العملية.
ويوضح «فوكوياما» أنه بفضل «ترامب»، انتقلت القومية البيضاء من الأطراف إلى شيء يشبه التيار السائد، ويشتكى أنصاره أنه برغم كون من المقبول سياسيًا الحديث عن حقوق السود أو حقوق المرأة أو حقوق المثليين، فإنه من غير الممكن الدفاع عن حقوق الأمريكيين البيض دون أن يكونوا عنصريين.
ويجادل ممارسو سياسة الهوية من اليسار بأن تأكيدات البيض للحق فى الهوية غير شرعية ولا يمكن وضعها على المستوى الخاص نفسه بالأقليات والنساء والجماعات المهمشة الأخرى؛ لأنها تعكس وجهة نظر مجتمع متميز تاريخيًا.
الحاجة إلى التوافق
تحتاج المجتمعات إلى حماية الفئات المهمشة والمستبعدة، ولكنها تحتاج أيضًا إلى تحقيق أهداف مشتركة من خلال المداولات والتوافق، والتحول فى جداول أعمال كل من اليسار واليمين نحو حماية هويات المجموعات الضيقة يُهدد فى نهاية الأمر تلك العملية، مع الأخذ فى الاعتبار أن الحل لا يتمثل فى التخلى عن فكرة الهوية، التى تعتبر مركزية للطريقة التى يفكر بها الناس فى أنفسهم ومجتمعاتهم المحيطة.
وطبيعة الهوية الحديثة هى أن تكون قابلة للتغيير، ومواطنو المجتمعات الحديثة لديهم هويات متعددة، تتشكل من خلال التفاعلات الاجتماعية، فتتنوع حسب العرق والجنس ومكان العمل والتعليم وغيرها، ورغم أن منطق سياسات الهوية يكمن فى تقسيم المجتمعات إلى مجموعات صغيرة تتعلق بذاتها، فمن الممكن أيضًا خلق هويات أوسع وأكثر تكاملًا.
وفى هذا الإطار، تحتاج الديمقراطيات إلى تعزيز ما يطلق عليه علماء السياسة «الهويات القومية العقائدية» «creedal national identities» التى لا يمكن بناؤها حول الخصائص الشخصية أو الخبرات المشتركة أو العلاقات التاريخية أو المعتقدات الدينية، بل حول القيم والمعتقدات الأساسية، والفكرة هى تشجيع المواطنين على التعرّف على المُثُل الأساسية فى بلدانهم واستخدام السياسات العامة من أجل استيعاب الوافدين الجدد بشكل متعمد. إن مكافحة التأثير الضار لسياسات الهوية سيكون أمرًا صعبًا فى أوروبا، ففى العقود الأخيرة، دعم اليسار الأوروبى شكلًا من أشكال التعددية الثقافية يُقلل من أهمية دمج القادمين الجدد فى الثقافات القومية. وهو ما يستدعى أن تبدأ المعركة ضد سياسة الهوية فى أوروبا بالتغييرات فى قوانين الجنسية، ومثل هذه الأجندة تتجاوز قدرة الاتحاد الأوروبي، الذى تدافع دوله الأعضاء بحماس عن امتيازاتها الوطنية، وتقف على أهبة الاستعداد للاعتراض على أى إصلاحات أو تغييرات مهمة؛ لذا فإن أى إجراء يحدث سيتم على مستوى البلدان الفردية. ولمنع حصول بعض الجماعات العرقية على الامتيازات دون غيرها، يجب على الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبي، التى لديها قوانين الجنسية مستندة إلى الدم، أن تعتمد قوانين جديدة تستند إلى الميلاد، وفى الوقت نفسه، عليها أن تفرض شروطًا صارمة على تجنيس مواطنين جدد، وهو ما فعلته الولايات المتحدة لسنوات عدة. بالمقارنة مع أوروبا، كانت الولايات المتحدة تُرحب بالمهاجرين بشكل كبير، ويرجع ذلك جزئيًا لكونها طورت هوية قومية فى وقت مبكر من تاريخها، واليوم، يجب إعادة إحياء الهوية القومية الأمريكية، التى ظهرت فى أعقاب الحرب الأهلية، والدفاع عنها ضد هجمات اليسار واليمين. فبالنسبة لليمين، يريد القوميون البيض استبدال الهوية القومية بواحدة قائمة على العرق والدين، وبالنسبة لليسار، سعى أنصاره لتأكيد فكرة الإيذاء، موضحين أنه فى بعض الحالات توجد العنصرية والتمييز بين الجنسين فى تاريخ البلاد.
هوية وطنية واحدة
تاريخيًا، استفادت الولايات المتحدة من التنوع، ولكنها لم تستطع بناء هويتها على التنوع، فالهوية الوطنية الفعالة تقوم على أفكار جوهرية كالدستور وسيادة القانون والمساواة بين البشر، وبمجرد أن تُحدد البلد هوية قومية مناسبة تكون مفتوحة للتنوع الفعلى للمجتمعات الحديثة؛ فإن طبيعة الخلافات حول الهجرة سوف تتغير حتمًا.
هذا النقاش حول الهجرة أدى إلى الاستقطاب فى الولايات المتحدة وأوروبا، فيسعى اليمين إلى إنهاء الهجرة كلية ويرغب فى إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، ويؤكد اليسار التزامًا غير محدود من جانب الديمقراطيات الليبرالية بقبول جميع المهاجرين، لذا ينبغى أن يكون النقاش الحقيقى حول أفضل الاستراتيجيات لاستيعاب المهاجرين فى الهوية القومية للبلاد. ويوفر المهاجرون المُستوعبون تنوعًا صحيًا لأى مجتمع، فضلًا عن أن المهاجرين الذين لم يستوعبوا جيدًا هم عائق على الدولة، ويشكلون فى بعض الحالات تهديدات أمنية. فى فرنسا، مفهومها حول المواطنة يتشابه مع المفهوم الأمريكي؛ فهو مبنى على المثل الثورية للحرية والمساواة والأخوة، فالقانون الفرنسى لعام ١٩٠٥ حول العلمانية، يفصل بين الكنيسة والدولة. وتبدأ أجندة الاستيعاب فى الولايات المتحدة من التعليم العام، وكان لتدهور تعليم التربية المدنية بها لعقود، سواء بالنسبة للمواطنين أو المهاجرين نتائج سلبية، ويرى الكاتب أن تعزيز الهوية الوطنية الأمريكية سيكون من خلال الخدمة الوطنية؛ حيث يمكن للمواطن أداء مثل هذه الخدمة إما بالتجنيد فى الجيش أو من خلال العمل فى دور مدنى مثل التدريس فى المدارس أو العمل فى مشاريع للحفاظ على البيئة أو غيره. وإذا تم تنظيم الخدمة الوطنية بشكل صحيح، ستجبر الشباب على العمل مع الآخرين من الطبقات الاجتماعية المختلفة والأقاليم والأعراق، وسيؤدى ذلك إلى دمج القادمين الجدد فى الثقافة الوطنية، أى ستكون الخدمة الوطنية شكلا من أشكال الديمقراطية، يُشجع على الفضيلة والحماسة بدلًا من مجرد ترك المواطنين وحدهم لمواصلة حياتهم الخاصة.