الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كونفوشيوس وثورة المهذبين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعياني البحث عن قلمي، فإذا بى أجده يتسمع اعتراضات الشباب الثائر على تعاليم حكيم الصين العظيم، وذلك لينقلها لى قبل أن أمسك به وأدون الأحداث التالية والواقعات الآتية لإتمام الحوار المنتظر بين عصبة الشباب الذين كرهوا كل خطابات الوعظ والنصح والإرشاد التى لم يجدوا سواها عند أكابر حكماء وكتابات الأجداد، فراح قلمى يعاتبنى بقوله: يبدو أن الاعتراض والعصيان أمسى دستور العصر، فعلى الرغم من صداقتنا وجميل العشرة بيننا إلا أنك لم تأخذ كلامى على محمل الجد عندما نبهتك إلى أن تلك المحاورات التى تحاول أن تصورها من نسيج خيالك لتدريب الشباب على فن الإصغاء والاستيعاب من الشباب المخضرمين لن تأتى بأكلها فشباب اليوم كما ذكرت لك قد أعياه القلق الوجودي، ومن أعراضه الارتياب والملل والإحباط والكسل واليأس، وجل هذه الأعراض تحول بينهم وبين ما تريد أيها الصديق. 
ولعل أقرب الأمثلة على ذلك سخريتهم من حديث كونفوشيوس عن ثورة المهذبين واعتراض العقلاء ونقد العلماء. ولست أدرى كيف يعشق هذا الجيل من الشباب دروب المغامرة والمقامرة، مع اعترافه بأن زاده فى هذين الدربين هو الحظ فقط. ولكن على أى حال إن صحبتك فى كتابة تلك المحاورات لا تخلو من المتعة الذهنية، للكشف عن ذلك البون الشاسع بين أيامنا وأيامهم راجين أن ندرك أن ما استملحناه من دروب التعلم لهو من أشد ما يبغضونه، فشعارهم هو (إذا أردت أن تثبت وجودك عليك أن تتمرد وتتفرد حتى لا تمضى اللحظة التى يجب عليك أن تثبت فيها لاقتطاف الثمر الذى أتاك صدفة). 
حسنا يا صديقى سوف أأخذ حديثك وأعرضه على طاولة النقد وسوف أجتهد أيضا فى تحليل اعتراضات الشباب، والآن دعنى أيها القلم أكمل حديث كونفوشيوس وردوده على شبيبتنا. 
لم يكد المعلم أن يستوى على كرسيه إلا وبادره أحد الشباب بهذا السؤال: ترى أيها المعلم لو أن أحدنا جلس على كرسى الحكم بعد أن تخرج فى مدرستك وآمن بتعاليمك لن يخضع لمغريات الجاه والسلطان؟، وأن كئوس الفضيلة التى ارتشفها فى معيتك هل تقدر على عصمته من فتنة المغريات المصاحبة وما فى مجالس السلاطين والحكام والرؤساء من ألوان المتع واللذائذ والمغريات؟ 
كونفوشيوس: الحق أن الطريق الصحيح المضاء بأنوار الفضائل يمثل جوهر الذات ومتغلغل فى بنيتها، فلو أن أحدكم نجح فى غرس جذور الاستقامة بداخله وراح ينميها حتى اختلطت بكل كيانه وفنى فيها وبقيت فيه فلن يفضل عليها بريق تاج الملوك إذا وضع على رأسه، ولا قوة صولجان الحكام إذا حمله فى يده، كما أن الأزمات والمآزق لن تثنيه عن صراطه المستقيم الذى سلكه بمحض إرادته لأن وجوده أصبح والطريق كيانا واحدا. فالثائر النبيل الشريف تمرن على المثابرة لمجاهدة المحن وهو محارب جسور لكل الرذائل والمغريات التى تجسدها بنات الهوى ورفاق السوء، أما الدنيء الذى فشل فى اجتياز عقبات الطريق فيقترف الآثام والمفاسد، ويأسف فى الوقت نفسه على تضحيته بالقيم والأخلاق متعللا بالمواقف والظروف والمحن بالغة القسوة. فالإخلاص والصدق مع الذات هما اللذان يهديان النفس دوما للطريق المستقيم، ويعصمانها فى كل الأوقات من الجنوح والزلل. فالشاب النبيل لا يضحى بالفضائل حرصا على حياته لأن فى ضياعها موته فى حين أن تضحيته بحياته دفاعا عن الفضائل والخير خلوده وسعادته الأبدية، فانتصاره لمكارم الأخلاق سوف يمكنه من استشراف المستقبل وما يحمله من معوقات وعثرات، فيهديه ذهنه إلى سبل معالجتها وتفاديها، فإن الأقدام التى تقودها عين يقظة وذهن حكيم لن توقفها العثرات ولن تعرقلها المآزق. 
وإياكم أن تحسبوا تعاليمى أقوال مقدسة تحفظ وتتلى، بل هى فى الحقيقة تمارين للممارسة، فلن يمتلكها من عجز عن العمل بها، وليس هناك أشر من أن تمحوا هذه التعاليم أو تقدحوها دون تجريب. 
واعلموا أنه لا يضير أحدكم تجاهل الناس لعلمه وقدره، ولكن الخطر أن يفقد أحدكم ثقته بنفسه من جراء ذلك التجاهل، فالحكمة وجدت للخلود رغم ما تلاقيه من عنت وجهالة وحمق وسخرية على مر الأيام، فالحق لا يفنى بالقدم، والحاذق الماهر وحده هو الذى يعرف سبيل الحكمة ومقام الحق. واعلم أيها الثائر أن الأخطاء التى لا يمكن معالجتها هى التى يعجز الفرد عن تلاقى تكرارها أو تجنب الوقوع فيها رغم تباين صورها، وأن الفطن هو الذى يتعلم من زلاته وعيوبه وخطاياه بعد أن يصارح نفسه بها قبل أن يعيب على الآخرين فعلها. وإياك والخلط بين الفضائل والرذائل، فالشجاعة بلا أخلاق تصبح تمردا وعصيانا وسفالة وتهورا وإجراما وتهجما ووحشية، وهى فى معية الأخلاق جرأة بلا تهور وانتصار للحق دون اجتراء، ودفع للباطل دون اندفاع. والتواضع ومجالسة السفلة يحط من شأن العلماء الكرام، ومحاورة الحمقى لا ينتج عنه إلا السباب والرمى بالباطل، ووصف الحكماء بالتعالى والغرور. 
واحذروا من ينبئكم بأنه يمتلك فصل الخطاب وأن علمه ومقامه لا يدانيه دونه وأن الحق يسير فى ركابه والباطل لا يفارق رأى خصومه وندمائه، والخير كل الخير فى اجتنابه لأنه الضلالة بعينه وإننى أكرر إننى أحمل لكم نهوجا فى التفكير وطرائق فى التدبير لا يمكن تقييمها إلا بممارستها، فالتجربة خير برهان والمآل لا يمكن تكذيبه. 
وآخر حكمة الشياب الذين أنا منهم هى أن أروع الآمال هى التى تختزنها أذهان الشباب لأنها تعبر عن طموحاتهم التى تراها عيونهم فى آفاق المستقبل، وإننى لا أرتاب فى مجيء يوم تصبح فيه تصورات الشباب وآرائهم أعلى كعبا من تلك الحكم التى نختزنها ونبتدعها لتعليمهم، فالمجد يسير دوما فى ركاب الشباب، ومن لم يفلح منهم فى إثبات ذلك فحقيق به أن يصمت ويتأدب بآداب التقليد، فليس من حق العاجزين التطاول على الحكماء. فنحن أحوج ما نكون لثورة المهذبين وإصلاح المبدعين. 
وانتفض أحد الشباب: أيها الشيخ، ما دام الحق معنا والمجد فى ركابنا، لماذا تجلسنا فى موضع التلاميذ والأتباع والصغار الذين كتب عليهم الطاعة والتسليم بصحة نصائح الكبار؟ والأحرى بك أن تستمع إلينا وتستوعب خبراتنا وعليك التعايش مع الواقع ومشكلاته التى لم تخطر لكم على بال. 
فابتسم كونفوشيوس وهو ينظر للحضور قائلا: إن من أجمل ما قاله القدماء فى مثل هذا الموقف الذى وضعنى فيه رفيقكم الثائر الغضوب هو إن أسوأ الأوقات هى التى يقضيها المرء فى معية الأغبياء والحمقى والجهلاء، فإذا حاورهم لم يفهموه، وإذا جادلهم لا يقنعونه، وإذا طلب منهم المشورة والرأى أضلوه، والعاقل هو الذى يستثمر وقته فى مجالسة النبهاء، ففى حواراتهم جدة وطرافة، وفى جدالهم مثاقفة وحصافة، وفى آرائهم فكر وإضافة. فالأريب العاقل هو الذى يتدبر قوله قبل أن يبوح به مخافة الإساءة إلى سامعيه أو فضح جهله، إذا تحدث فيما لا يعيه وهو يمثل بذلك ثورة المهذبين، أما البليد الأحمق فهو الذى يفرض على مستمعيه رأيه، ثم يصرخ شاكيا غباء منتقديه. فلكل زمان ذوقه وخصاله، فإذا كنا فيما مضى نعيب على الأسافل تطاولهم وفحشهم وقدحهم ووضاعتهم ورقاعتهم، فما أعجب اليوم من أحوالهم فقد أصبحوا فيكم أرباب الكلمة وأصحاب السطوة وملاك الثورة وما أقبح تلك الأيام التى بات فيها العالم مغتربا والحكيم أخرس وطالب العلم أصم. 
وآخر حديثى معكم حريا بى أن أؤكد لكم أن ما بحت به هو بضاعتى التى أؤمن بها ولا أحيد عنها ولا أمنعها عمن يستحقها فهذا دأبى الذى أحب وأعشق، والخائن وحده هو الذى يطعن فؤاده ويتآمر على عقله ويسجن إرادته إرضاء لسامعيه طمعا فى مكانة شاغلة بمن هو أفضل منه. 
وللحديث بقية عن الشياب والشبان.