الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الوظيفة الاجتماعية للتربية»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ينفرد الإنسان من بين سائر الكائنات الحية بقدرته على التكيف وفقًا لمعايير وقيم ثقافية أبدعها لنفسه، وتعكس «القيم» أهدافه واهتماماته الذاتية، كما تعكس حاجات النظام الاجتماعى والثقافى الذى يعيش فيه. وإذا ما حاولنا أن نفرق بين عالم الإنسان وسائر العالم فى كلمة واحدة، فلن نجد سوى القيم؛ فالإنسان لا يواجه العالم بوصفه موضوعًا مستقلًا محايدًا، بل العالم القائم هو عالم بالنسبة إليه، لا يتصل به إلا من جهة ما يعنيه منه، ولا يعرف منه إلا ما يُترجم إلى لغته. وما يغزوه من العالم مزود بالثقافة، بل إن الثقافة هى الوجه الإنسانى من العالم. وتُصاغ ثقافة الإنسان من مجموع جوانب فاعليته على نحو ما يتضح من فلسفته ودينه وفنه وعلمه، ومن قبل ذلك، فى لغته وأساطيره وسحره؛ فهى القيم والمثل السائدة فى المجتمع.
إذن، فالثقافة هى اختراع إنسانى تفرد به دون غيره من الكائنات الحية، ومن أجل المحافظة على هذه الثقافة وإغنائها ترتب على الإنسان أن يحقق لها تواصلها من جيل إلى جيل، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، عبر عمليات النقل والتحويل الثقافى؛ حيث تأخذ «التربية» دورها الأساسى فى عملية تحقيق التواصل الثقافى بين الأجيال الإنسانية المتعاقبة. إن التربية تمكن الإنسان من اكتساب ما يمكن أن نطلق عليه «السجل الثقافى» الذى يتحدد من خلال الحياة الاجتماعية ذاتها، وهو فى كل مراحل حياته اللاحقة يحتاج إلى عامل التدريب والتربية والتعليم من أجل أن يكتسب هذه المهارات والقدرات التى تساعده على التكيف. إن الإنسان يحتاج إلى برنامج تربوى كامل على مدى الحياة ليستطيع التكيف مع متطلبات حياته الاجتماعية.
لقد أكد الفيلسوف الألمانى «كانط»: «إن الإنسان لا يصبح إنسانًا إلا بالتربية»، بمعنى أن الإنسان بشخصيته الحالية هو انعكاس للأنماط التربوية السائدة فى عملية التنشئة الاجتماعية داخل المجتمع. وما تسعى له التربية، من خلال تعريفها بوصفها عملية تنشئة وتفاعل اجتماعى شامل، هى صقل الفرد وتنمية قدراته العقلية وتهذيب سلوكه. وفى هذا الاتجاه يذهب عالم النفس الفرنسى «هنرى بييرون» مؤكدًا القدرة الكلية للتربية حيث يقول: «إن الطفل مرشح لأن يكون إنسانًا، وهو ليس أكثر من مرشح للارتقاء إلى هذا المستوى، ومن ثم لا يعدو أن يكون غير وجود بالقوة لإرث النوع الإنساني؛ ومن هنا فإن الانتقال به من صورة القوة إلى صورة الفعل، من وجود إنسانى بالقوة إلى وجود إنسانى بالفعل، أمر مرهون بالفعل التربوي». معنى ذلك أن الإنسان يفقد حقيقة جوهره الإنسانى عندما لا يجد التربية التى تتعهده وتأخذ بيده إلى صورته الإنسانية.
والتربية، من منظور عالم الاجتماع الشهير «إميل دوركايم»، تتحرك على إيقاعات مبدأ الوحدة والتنوع فى آن معًا، فالحد الأدنى من التجانس بين أفراد المجتمع ضرورى لوجود المجتمع واستمراره؛ ومن ثم فالتربية تعمل على بناء هذا التجانس وتعزيزه بين أفراد المجتمع، وهى من أجل ذلك تغرس فى نفوس الأطفال عناصر الوحدة والتجانس الضرورى للحياة الاجتماعية. لقد كانت الميزة الأساسية «لإميل دوركايم» – إضافة إلى ملاحظاته التاريخية العامة – هى أنه أبرز الطابع الاجتماعى للتربية، وذلك على خلاف الرؤى الفردية التى كانت سائدة فى عصره. إذ يقول: «تكون التحولات التربوية دائمًا نتاجًا ومؤشرًا لتحولات اجتماعية قادرة على أن تفسر ما يجرى فى مجال التربية».
وينطلق «جون ديوي» فى أفكاره التربوية من وجهة نظر «دوركايم»، فقد رأى أن للتربية «وظيفة اجتماعية»، بمعنى أنها عملية تجدد تستطيع الحياة بواسطتها المحافظة على دوامها؛ أى أنها مجموعة العمليات التى يستطيع المجتمع عن طريقها نقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعنى – فى الوقت نفسه – التجدد المستمر لهذا التراث وأيضَا للأفراد الذين يحملونه. التربية هى عملية نمو وليس لها غاية سوى المزيد من النمو، إنها الحياة ذاتها بنموها وتجددها. لقد لاحظ «ديوي» أن الحياة التقليدية القديمة حياة تتميز بالبساطة، وأن التطور الاجتماعى العاصف يهدد نمط الحياة التقليدية بالزوال، وأن أنماطًا جديدة للحياة الاجتماعية تتوالد باستمرار.
أما عالم الاجتماع الألمانى «كارل مانهايم»، فقد بين – فى أعماله المختلفة – التزامه بالنظرية الاجتماعية للتربية، وأعلن عن دور المجتمع فى تحديد مسار العمل التربوى واتجاهه. وعلى المستوى الأكاديمى كان متحمسًا لتدريس علم الاجتماع التربوى فى مناهج تدريب المعلمين. وفى كتابه الرئيس: «الأيديولوجيا واليوتوبيا» يعالج «مانهايم» العلاقة بين المعرفة والنظام الاجتماعي، وهو فى سياق تحليله لهذه المسألة، يرى أن المعرفة والأيديولوجيا تصدران عن تكوينات اجتماعية بنيوية. وفى تناوله لهذه القضية يُعَرِف «علم اجتماع المعرفة» بأنه العلم الذى يهدف إلى تحليل العلاقة بين المعرفة والوجود أو الفكر والواقع الاجتماعى التاريخي، حيث يتعقب جذور الأشكال المختلفة لتلك العلاقة خلال مسيرة التطور السريع الذى قطعته الإنسانية؛ أى أنه يهدف إلى الكشف عن تلك العلاقة الوظيفية التى تجمع بين أى موقف فكرى من جهة، وبين تلك الحقيقة الاجتماعية التى تكمن من ورائه من جهة أخرى. وقد رأى «مانهايم» أن المعانى أو الدلالات التى يتكون منها عالمنا ليست سوى ذلك البناء التاريخى الذى لا يكف عن الترقي، والذى يتطور فى كنفه الوجود الإنسانى نفسه. فلا موضع – إذن – للقول بوجود معانٍ مطلقة أو دلالات ثابتة، بل لابد من التسليم بأن الفكر الإنسانى ينشأ ويتطور ويعمل دائمًا فى نطاق بيئة اجتماعية محددة.