الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مجتمع التناقض والورع الانتقائي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

النكات هي أحد قوالب الأدب السردي الذي يعكس ثقافات الشعوب، وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وتوصف النكتة في الثقافة الإنسانية بسلاح الصامتين، فهي تأتى دائمًا كأحد أهم الوسائل التي تعبر بها الشعوب عما يجول في خاطرهم، فيعبرون من خلالها عن أوجاعهم ومعاناتهم بأسلوب ساخر، وتعكس انطباعاتهم وآراءهم في أنفسهم.. ولأن الشعب المصري من أكثر الشعوب التي اشتهرت بالفكاهة، وبإنتاج النكات وتداولها هربًا من قسوة الظروف التي يعيشها منذ عصور، فيواجه أزماته بالسخرية منها، وينتقد طباعه بالضحك عليها.. ونظرًا للتغيرات التي حدثت للشخصية المصرية خلال العقود الأخيرة، والتي انعكست في مظاهر التدين الشكلي، والذى شهد معه تراجع في الأخلاقيات والسلوكيات والقيم الإنسانية العامة، لذلك عبر المصريون عن هذا التناقض من خلال النكات أيضًا.. ولكن الجديد أنها أصبحت تتداول كتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تنقل شفاهة فقط كما كان فى الماضى.

ومن ضمن النكات التي ظهرت في الآونة الأخيرة، والتي كتبت بالعامية ومن خلال استخدام التعبيرات المتداولة في الثقافة الشعبية ما يلى: «شيطان كان ملازم واحد مصرى وسابه.. سألوه: ليه سبته؟.. قال: الله يخرب بيته دوخنى وجابلى الجلطة..الصبح بيسرق، والظهر فى الجامع !وفى درج مكتبه حشيش، وفوق المكتب قرآن! ومحجب مراته، وبيجرى ورا النسوان! وشايل سبحة بيسبح بيها بالنهار، وبيرقص بالليل! عليا الحرام ما كنت عارف هو اللى كان ملازمنى، ولا أنا اللى كنت ملازمه؟!».. وقد انتشرت هذه النكتة بشكل كبير، لأنها تعبر بحق عن التناقضات التى أصبحنا نعانى منها فى طباع الكثيرين، سواء مصريين أو عربًا بشكل عام.. فنراهم يدعون الفضيلة ويتناقلون الأدعية ويتبادلون كلمات الذكر والصلاة على الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفى نفس الوقت نقرأ في الإحصائيات أن العرب هم أكثر متصفحي المواقع الإباحية! ونرى الكثيرين يتمسكون بالزواج من محجبات، ويرفضون أن تبدى نساؤهم أو بناتهم زينتهن، وفى نفس الوقت يلهثون وراء الأجنبيات ويتناقلون صورهن في مباريات كرة القدم وغيرها، ويتمنون الزواج بهن، وكذلك كثير من النساء يرتدين الحجاب، وفى نفس الوقت يضعن الكثير من مساحيق التجميل، ويحاولن إثارة الانتباه بملابسهن الضيقة أو المفتوحة، وكأن التدين هو مجرد تغطية الشعر أو جزء منه بقطعة من القماش! حتى بعض المنتقبات واللاتي يتفنن في تجميل ما يظهر منهن حتى وإن كانت العيون والأيدي فقط! فيضعن كتل من مساحيق التجميل على عيونهن، أو يرتدين الكثير من الحلى في الأيدى ويضعون طلاء الأظافر لمحاولة جذب الانتباه! وهو ما يتعارض كلية مع فكرة الحجاب الموجود في كل الأديان السماوية، والذى يعتمد في الأساس على الزهد! ونقبل كمجتمع من الرجال ما لا نقبله من النساء، فنبرر خيانة الرجل ونلعن خيانة المرأة، فى حين أن الله تعالى لم يفرق في الذنب بين رجل وامرأة، أو في الثواب والعقاب! ويحلل البعض الكذب والغش الذى يتنافى مع كل القيم الإنسانية، بحجة أنه للمصلحة أو أنه غير مكروه عند الضرورة، ويحاولون أن يأتوا من الدين بأدلة عن ذلك! وهو افتراء على الله والدين وقصور فى الفهم والتفسير، يشوه الدين لمن لا يعرفه بحق.. لذلك أصبحنا نقرأ، ونسمع كثيرًا عن جرائم يقوم بها بعض ممن يدعون التدين، والذين يبررون لأنفسهم تلك الأفعال.. مثلما حدث منذ أيام بالقبض على احد الأشخاص الملتحين الذين يتباهون بزبيبة الصلاة على جباههم، وذلك لاستباحته سرقة المال العام والمتاجرة به! وقد كتب عنه الدكتور خالد منتصر منذ أيام تحت عنوان «شعب متدين بطبعه» ونشر صورته معلقًا عليها، كما يلى: «هذا الرجل الورع التقى الملتحي الحاصل على جائزة أكبر زبيبة دخل بها موسوعة جينيس.. عمل مشروع صغير وبسيط في محافظة الشرقية.. ابتكر دائرة كهربائية بريموت كونترول لسرقة الكهرباء وبقى يبيعها ويركبها للمحلات.. يعنى يخلى أصحاب المحلات يفصلون العداد بالريموت ويسرقوا الكهرباء ولما ييجى محصل النور صاحب المحل يشغل العداد بالريموت ويفصله لما يمشى.. منتهى الإيمان.. صار لدى البعض ثأر ضد الدولة والمجتمع يحللون السرقة والتقية والرشوة باسم إنها دولة كافرة وتستاهل».

فمن أين نأتي بكل هذا التناقض؟! وإلى متى سيستمر هذا الانهيار الأخلاقي الذي نعانيه؟! نحتاج علماء النفس والاجتماع لتحليل ومعالجة ما وصلنا إليه.. والأهم ألا ننقل للأجيال الجديدة نفس التناقض، بل نحاول تنشئتهم على الأخلاق والقيم الإنسانية والدين الحقيقي، وكفانا الانتقاء من الدين ما يتوافق مع مصالحنا الوقتية، وهو كما قال الكاتب الصحفي د. محمد فتحي يونس نقلًا عن عالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية جيرمين توليون الورع الانتقائي.. والذي يتغافل عن فضيلة ويتورط في رذيلة ويدافع بحماسة عما يعتبره فضيلة أخرى!.