الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عشر زهرات لأساتذتي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ أطلت سحابات الخريف اللطيفة وأظلت سماء روحي، تخفف قلبى من ثقله وأغمض عينيه، فى استراحة يستعيد فيها اتزانه، بعد مشاوير القيظ التى أرهقته، قررت أن أتخفف أنا أيضا. أغلق شاشات المعارك كما أغلق الصيف أبوابه. أسير بلا شِعر فى جيوبي، بلا خرائط للعراق وتكهنات لسوريا، بلا مراقبة لأسماء الشعراء والندوات والمسابقات، بلا شهية لأدب اهتزت ثقتى فى معاييره، وانهزمَتْ فى معركة القيمة. من مع من؟ من ضد من؟ ولماذا تَقْبل الأشكال الأدبية للجميع، فيفاجئك رفض بعض النقاد للشكل الأدبى الذى اخترته وقارب على الثلاثين من عمره، أعنى قصيدة النثر. قررت محاولة غسل الروح بالمحبة قررت أن أهدى زهرة شكر لبعض علامات طريقي. بعض إنسانيتى تعلمتها منهم. زهرة إلى العظيم صبرى موسى، كريما حنونا هادئا، ومراقبا للحياة من خلف نظارته ببصره ومن خلف شغاف روحه بصيرته، التى جعلت منه متصوفا كبيرا زاهدا منكبا على مشروعه ومعطاءً كبيرًا لكل من يطرق أبوابه أو يدخل ساحته. أهديت كتابى النقدى الأخير إليه وكتبت تصديرا أيضا من حبل نوره. عملت بما قال تماما وهذا أقل القليل الذى أرده إليه حتى وإن غاب بجسده هذا المعلم الكبير الذى استقال من عضوية لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة لأن شابة صغيرة قدمت قراءة نقدية لروايته الجميلة –حادث النصف متر- فى مسابقة النقد التى نظمها المجلس. ربما تفوز البنت ربما لا تفوز. والبنت لم تكن تعلم أنه عضو باللجنة ولم تقابله أبدا فى الواقع. لكنه كأديب نبيل وكبير أرسل من يخبرنى أنه سعيد بالدراسة التى لم تكن غير اجتهاد أديبة صغيرة على الدرب ما زالت تخطو خطوا خفيفا وفازت بمركز ثالث أعتز به كثيرا وممتنة له حتى الآن لأنه ببساطة أشار لى على الدرب. هذه البنت كانت أنا فى التسعينيات، صرت أما وكاتبة أسأل عنه من وقت لآخر من عام لآخر من كبوة لأخرى فيرد بنفس الدفء الأبوي. ممتنة لوجوده فى حياتى كعلامة وبعد رحيله ما زلت أحمل نفس الامتنان وزاد عليه البوح. زهرة أخرى أهديها إلى الناقد الكبير غالى شكرى كان يرأس تحرير مجلة القاهرة وأرسلت إليه دراسة نقدية عن مجموعة لمحمد كشيك. وكنت متخوفة آن ذاك لأن المجلة لا ينشر بها سوى أسماء لامعة من النقاد، وفوجئت بمن يطلبنى بالتليفون ويخبرنى باقتضاب أن دكتور غالى يريد مقابلتى فذهبت إليه فى الموعد المحدد، رحب بى مرتبكا ومعتذرا وعندما سألته أخبرنى أنه لم يكن يعرف أننى حامل. بل إنه لم يتخيل أن أمل اسم لسيدة. قال إن أسلوب الكتابة أوحى إليه أنها من قلم رجل. قال إنه أحب أن يتعرف على صاحب الدراسة ونصحنى أن أكمل طريق النقد فقلت له إننى طالبة بأكاديمية الفنون وأننى أستمتع بتحليل النص الأدبى لأنه رياضة عقلية وتمارين للروح لاستبطان علاقات اللغة والمشاعر فى النفس البشرية. وأننى لن أستطيع استكمال الماجستير والدكتوراه بسبب اللوائح فقال لي: النقد موهبة واجتهاد، وليس شهادة دكتوراه بالدرجة الأولى، رحل الدكتور غالى شكرى ولم ترحل كلماته من عقلى وقناعاتي. وثلاث زهرات لأمهات لم يلدننى ثلات معلمات. الدكتورة نهاد صليحة أستاذتى فى أكاديمة الفنون وهى من هي، علمتنى بساطة التعامل مع طلابى بحنو الأم وكسر كهنوت مهنة التدريس والسير فى الحياة، غير مثقلين بأعباء ما لا يلزم، وما لا يزيد علي إنسانيتنا وكأننا خارجون للتو من مسرحية يونانية عميقة فى تأثيرها التطهيري. الثانية هى الدكتورة هدى وصفى والتى لم ألتقها بشكل مباشر أو احتكاك قريب. لكن ما قدمته من خلال الهناجر إلىّ - كطالبة وقتذاك - لا تدرى عنه شيئا، ببساطة لأنها كانت تقدمه للجميع بمحبة وابتسامة لا تفارقها وجدية أيضا فى حديثها وخطوتها. كانت الهناجر شعلة مسرحية مبهرة وواحة سحرية فى غابة ينفتح عالمها بانفتاح الستارة. لها أقول إن المسرحيات تعرض، وينتهى بانتهاء وقتها.مثلما تذبل الزهور بعد تفتحها وتسقط وزهورك سقطت فى عقلى وقلبي. الثالثة للقوية الشجاعة الكاتبة فريدة النقاش بكتابتها ودفاعها عن بنات جيلى من الشاعرات والكاتبات خارج العاصمة، وكيف أنه يجب العناية بإنتاجهن ومد يد العون لهن وهن العالقات فى سواقى التقاليد، أذكر أننى كتبت لها خطابا مع قصائد للنشر، فنشرتها، وكتبت مقالا طويلا داعما. ولم تتوان لحظة عن نصحى حينما كنت أطلب المشورة هاتفيا أو وجها لوجه، فى الجريدة أو الحزب أو اجتماع الاتحاد النسائى حين نمر عليها أو تمر علينا لها السلام. وزهرات حانية إلى صديقى حودة المشاء الصديق الخفى الذى احتفظت لى الدنيا به فى ممر معتم، إلى رانيا كمال معلمة ومثقفة واعية تحتاج إلى مثلها عقول أبناء مصر، وإلى شفيقة صديقتى فى سوق القرية لا تبيع لنا الخضراوات قدر ما تهدينا المحبة والابتسامة، ووردة إلى جارات المحبة أم أيمن، عشرون عاما من الوفاء والدعم، وأخيرا دينا بالابتسامة الطيبة وشايها بالنعناع وأطباق طعامها الذى تتركه لى على سور الشرفة إن لم تجدنى تعتنى وتقدر سوء حالى أثناء الكتابة.
بمثلكم جميعا تورق صحراء الحياة، وتزدهر ألف زهرة تظلل أرواحنا، وتطرد قيظ صيفها الطويل.