الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«كونفوشيوس» والشباب الثائر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تلق حِكَمْ بوذا استحسانا من معظم المتحاورين الشبان، وذلك بحجة أنها لا تختلف فى بنيتها المتعالية المفعمة بالنصح والإرشاد عن تعاليم الحكماء المصريين، اللهم إلا فى الترتيب والصياغة، الأمر الذى دفع الشبيبة للبحث من جديد عن من يمتلك الروح الثورية فى الإصلاح والتنوير، فالتربية فى رأيهم تصلح للنشء والتغيير الهادئ والثورات الروحية، وقد عبر عن ذلك أحد الشبيبة بقوله: «إن الاستفتاء الذى وضعته على حسابى وصفحتى قد جاء بنتائج غير مرضية، إذ نجد معظمها يتهكم ويسخر من تلك النصائح التى جاءت على لسان بوذا، ولا سيما تلك التى طلب فيها من تلاميذه التخلى تماما عن المطامع الشخصية، واللذات المادية، بحجة التأهل لرياضات ذهنية تأملية، تمكنهم بدورها من صعود سلم السعادة الذى يوصلهم بدوره إلى الاستنارة الكاملة المتمثلة فى العمل المستمر للحفاظ على الأنا النقية أو السريرة العفيفة ومساعدة المعوذين وإسعاد الفقراء وذلك لتحقيق قدر موفور من الحرية والعدالة والحياة الكريمة». وتتساءل التعليقات الأخرى عن ثورات الشباب التى اندفعت للقضاء على كل السلبيات وقلبت الأرض لتخرج الديدان والحشرات والأفاعى من الجحور والشقوق، ثم أتت بالمحاريث العملاقة فمهدت الأرض للزراعة، ولم تلتفت لذلك الركام الذى خلفته عملية الهدم والتطهير. أما أطرف التعليقات التى قرأتها هى تلك التى حاولت إيجاد صلة مباشرة بين تعاليم كونفوشيوس لتلاميذه وثورات الشباب الحديثة من عام ١٩١٩م إلى الثورة الثقافية ١٩٦٦م، والتقدم الذى نراه الآن فى الاقتصاد والمجتمع الصينى المعاصر. لذلك أقترح مطالعة محاورات كونفوشيوس مع الشبيبة الذين جمعهم من شتى بقاع الصين، وبغض النظر عن مستواهم الاجتماعى الطبقى لقيادة ثورته على كل أشكال الفساد الاجتماعى والسياسى والأخلاقى التى تفشت فى عصره. واتفق الحضور على ذلك وأعلنوه على مواقعهم الخاصة. 
وأعتقد أن دورى فى هذا السياق أنا وقلمى سوف يقتصر على وصف ذلك اللقاء بين كونفوشيوس والشباب الثائر.
الحكيم كونفوشيوس: أيها الشباب إننى لم أدعو واحد منكم لألقنه أولى دروس الفروسية وأخلاقيات النبلاء والشرفاء، بل جميعكم جاء لى بإرادته مدفوعا من وعيه الحر ورغبته الصادقة فى تغيير الواقع وإصلاح ما فيه من عطب وفساد، كما إننى لم أفاضل بينكم إلا بمعيار واحد ألا وهو الصدق والإخلاص والعمل المستمر للوصول للهدف، فلا فرق عندى بين أبناء الأمراء وأولاد الفقراء، فكلكم سواسية، من يرتدى حلة من فراء أو من صوف خشن شأن السوقة والدهماء، فعفة النفس ونبل الطباع والإقدام والشجاعة ليست حكرا على العظاميين، بل للعصاميين فيها نصيب عادل تبعا لاستقامة ضمائرهم، وميلهم الفطرى للطريق الصحيح. 
واعلموا جميعا إننى لم أطلعكم على خطتى الثورية إلا بعد تعرفى على تصوراتكم للطريق الثورى ونهجكم فى التغيير وطرائقكم فى البحث عن الحق والتعبير عن مكنون أنفسكم بلسان الصدق بمنأى عن المداهنة والنفاق والخوف والتردد والجهل. واعلموا أيضا أن اللياقة فى الحديث والأدب فى الخطاب والسؤال والاعتراض أيضا هو المدخل الرئيس لقبولكم فى مدرسة الثورة، فالثائر الحق هو الذى يحمل عزائم الملوك وسطوتهم وقوتهم فى عمله لخدمة المعوزين وأصحاب الحاجات والمظلومين والمقهورين من العوام، وهو الذى يجعل من ذهنه غربالاً يضع فيه كل الرؤى والتصورات والأوامر والنواهى والاقتراحات والنصائح والقرارات، ثم ينتقى منها جميعا ما يتفق مع الطريق الصحيح الذى يوصل بالضرورة إلى الحياة الفاضلة والالتزام الأخلاقى، وهو من يجعل سواعده طوق نجاة لإنقاذ الأغيار، وقوة دافعة لمن يعملون لخير الناس، فالثائر النبيل هو الذى لا يفرح بنجاحه أو تفوقه على غيره، بل هو ذلك الذى أعان غيره على بلوغ ما يتمناه من رفعة ومقام المجد. والثائر الذى نود إعداده هو ليس ذلك الرجل القوى الصارم فى سن القوانين وتطبيقها لإلزام الناس بالسلوك القويم، بل الثائر حقا هو المعلم والمدرب الذى يفلح فى تحويل الإلزام إلى التزام فى سلوك العامة قبل الخاصة، فما أسهل على الأنفس المريضة التحايل على التعاليم والقوانين للهروب من العقاب إذا أرادت مخالفتها، وما أصعب على النفس مخالفة ما تدفعه إليها ضمائرهم وتحثهم عليه عقولهم السوية التى دأبت على السير فى الطريق الصحيح. 
فجأة وقف أحد الشباب معترضا بأسلوب لا يليق: أيها الحكيم، إنك مخادع، أين تلك الروح الثورية؟ وأين تلك القوى التى تمكننا من التغيير أمام زبانية الحكام الظلمة وسجونهم ذات الأسوار العالية؟ وإن التاريخ يشهد أن تعاليمك تلك هى التى دفعت رصفائنا إلى جحد منهجك والأخذ بالأسلوب الشيوعى الراديكالى فى التغيير، فنهضة الصين المعاصرة ترد إلى الشيوعية وليس إلى تلك النصائح البالية. 
فرد عليه شاب كان يجلس فى الصفوف الأخيرة من الجلسة: من فضلك اجلس، يبدو أنك لم تقرأ شىء عن أثر الكونفوشية فى أوروبا فى القرن الثامن عشر، ولا اعتراف الماركسيين الصينيين أنفسهم فى نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين بأنهم يعتبرون ثورتهم الشيوعية إحدى قراءات لنصوص كونفوشيوس، وذهب بعضهم إلى أن جحد تعاليم كونفوشيوس ومحوها من العقل الجمعى الصينى لن يفضى إلا إلى مزيد من التخلف والنكوص. فالديموقراطية والعدالة التى ينشدها الصينيون قد أدركوا أن سبيلها هو تطبيق تعاليم كونفوشيوس، وليس أسلوب الغرب الأمرأوروبى أو الماركسى الراديكالى. 
ثم استأنف كونفوشيوس حديثه قائلا: إن الشاب الثائر لن يبلغ حد الكمال دون أن يتحلى بآداب الحوار، فيتخير اللين من الكلام ويضعه موضعه، وبنفس الحنكة يسوق الحاسن والحاد من العبارات لضبط كل من يدنو من الشطح، أو يندفع نحو الجنوح أو ينتفض صوب المجون. وسأله أحد الشباب عن كيفية الحد من الجرائم فى المجتمع دون قوانين رادعة ويد باطشة؟ 
كونفوشيوس: إن هذا السؤال يذكرنى بسؤال شاب مثلك عن كيفية معالجة جريمة السرقة، فقلت له: إن العلاج بسيط، اقتلع الطمع من نفسك، وانتزع الحسد من عينيك، واقتل الجشع فى أحلامك، وعش بعض اللحظات فى حال المسروق واشعر بآلامه، سوف تمتنع نفسك عن ذلك الفعل وإن دفعت إليه دفعا، وحرضك الأشرار على ارتكابه. ولا تتهكم على جوابى مثل سالفك، فهناك من يظنون أن الأخلاق والفضائل لون من الترف الفكرى، والحق أن الشعوب تحتاج إلى الفضائل كحاجتها للهواء والغذاء، فليس هناك مقام أعلى من مقام الفضيلة، ولا حتى المعلم نفسه. ولا يفوتنى قبل أن أغادركم لأدلى بآخر نصائحى التى يمكن أن تؤهلكم لدرجة الثائر الشريف، وتتمثل فى «ثلاثة يجب عليك مصادقتهم: الشجاع المستقيم الراشد، والصادق عفيف النفس، والحاذق صاحب الدربة والدراية، واجتنب ثلاثة: الخبيث الذى يظهر عكس ما يضمر، والمنافق ذا الألف وجه، والثرثار الأحمق المتعالم». 
وللحديث عن محاورات كونفوشيوس بقية