السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التصور الديني للعالَم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الفلسفة الحقة لا تتنكر للعلم السائد، لأن العلم السائد فى عصر ما يؤثر تأثيرًا عميقًا على نظرية المعرفة فى ذلك العصر، ومن ثمَّ تنمو الفلسفة وتزدهر كلما تقدم العلم وارتقى، ولا تصبح عقبة فى طريقه، على خلاف الحال مع الدين، أو بتعبير أدق، على خلاف الحال مع رجال الدين، فالمشكلة ليست مع الدين وإنما مع الذين أكسبتهم عباءة الدين مكانة مرموقة، وثروات هائلة، فمنذ القدم وحتى اليوم، تصدى رجال الدين على مر عصورالتاريخ بشراسة وقسوة لكل تطور علمى ملموس. 
من المعروف أن كل تغير كبير فى مجال العلم يسبب قلقًا للناس فى بدايته، ويأخذ وقتًا حتى يألفه الناس، ويصبح نمط حياة، ثم يطرأ كشف علمى جديد، ويتصدى له مجددًا رجال الدين اعتراضًا، وقد يذهب ضحايا هذا الاعتراض عشرات بل مئات من الأرواح الطاهرة البريئة التى أرادت الإنارة والتنوير، وبعد فترة من الزمن، قد تقصر أو تطول، تفرض الحقائق العلمية نفسها، ثم تصبح تلك الحقائق جزءًا من الحياة اليومية للناس. هكذا هى مسيرة العلم والكشوف العلمية، كفاح مستمر لكشف الحقيقة وإنارة العقول المعتمة، ولكن تظل عالقة ببعض الأذهان معتقدات دينية ارتبطت ببقايا تصورات خاطئة عن العالم، هى من مخلفات نظريات علمية عفا عليها الزمن، ولنوضح ذلك بمثال:
كانت الصورة السائدة للعالَم هى أن الأرض ساكنة لا تتحرك، وهى مركز العالَم، وأن كل الكواكب والنجوم تدور حولها، وكانت هذه الصورة ترتد إلى اليونانيين القدماء، فلقد وُضِعَ نظام للعالَم حوالى عام 140 ميلاديًا على يد «بطليموس كلوديوس السكندرى» Ptolemy Claudius of Alexandria أوجزه فى كتابه الشهير «المجسطي» Almagest.
إن تصور «بطليموس» للعالَم القائل بأن الأرض مركز الكون قد هيمن على عقول المثقفين أكثر من ألف سنة، وأصبح العقيدة الرسمية للكنيسة طوال العصور الوسطى، ومن يجرؤ على القول بخلاف ذلك يُعَرّض نفسه للمحاكمة والموت حرقًا، حتى ظهر كتاب «كوبرنيقوس» Nicolaus Copernicus (1473 – 1543) المسمى «عن دوران الأجرام السماوية»، والذى نُشِرَ بعد وفاته. 
إن صدور هذا الكتاب يمثل نقطة تحول فارقة فى تاريخ العالَم والعلم، لأن كل معرفتنا وتفكيرنا قد تأثرا تأثرًا عميقًا بالكشف العلمى الذى حققه «كوبرنيقوس»، فالقول بأن الأرض لا تحتل مركز العالَم ليس مجرد حقيقة فلكية، وإنما هو تأكيد بأن الإنسان لم يعد هو مركز هذا العالَم، وأن كل ما يبدو لنا عظيمًا وهائلًا هو فى الواقع أقل أهمية عندما يقاس بمعايير الكون.
كان الفلكيون حتى أوائل القرن الماضى لا يعلمون بوجود مجرات أخرى غير مجرة درب التبانة، أو ما تُعرف أيضًا بمجرة درب اللبانة أو الطريق اللبني، وهى عبارة عن المجرة التى تنتمى إليها كل من الشمس، والأرض، وكذلك بقية المجموعة الشمسية، وكان العلماء يرون من خلال التلسكوبات بقعا ضبابية صغيرة متناثرة فى السماء، وأطلقوا عليها- فى ذلك الوقت- اسم «سحابة» أو «سديم»، واعتقدوا بأن تلك السدم جميعها هى جزء من تركيب مجرتنا، ولكن عندما دُرِسَت بعناية اتضح أنها ليست كذلك، بل هى مليارات من النجوم تجمعت معًا عن طريق الجاذبية، إنها مجرات، واتضح أن كوننا أكثر اتساعًا مما كنا نظن، وانقلبت مفاهيمنا وتصوراتنا عن العالَم الذى نعيش فيه، وأدركنا أن مجرتنا هى مجرد واحدة من مليارات المجرات فى الكون. 
وإذا كنا نحن نعيش على كوكب يسمى كوكب «الأرض»، فإن هناك مائة مليار كوكب على الأقل فى مجرتنا وحدها!! هكذا يتضح لنا عظمة الكون وضآلة الأرض، أما فيما يتعلق بحجم الإنسان قياسًا إلى حجم الكون؛ فإننى أفضل أن ألوذ بالصمت، لأن قواميس الدنيا لا تتضمن مفردات يمكنها أن تعبر بدقة عن ضآلة حجم الإنسان بالقياس إلى حجم الكون، ومع ذلك نجد من بين البشر من يتكبر ويتجبر!!. 
يتطلب القول بأن الأرض لا تحتل مركز العالَم قدرًا هائلًا من مران الفكر للاعتقاد فى صحة مثل هذا القول، ذلك أن التصور العلمى للعالَم يتعارض مع شهادة حواسنا، لأن الحواس توضح- على خلاف الحقيقة- أن الأرض تقف ساكنة، بينما السماء تتحرك، أما التصور الدينى للعالَم الذى يقول بأن الأرض مركز العالَم، وأن كل الكوكب والنجوم تدور حولها، فهو يتماشى مع شهادة الحواس، وإن كان يتعارض مع الحقيقة والواقع. 
الأفكار والمعتقدات التى كانت تسكن العقول فى عصر «بطليموس»، والتى كانت تقول بأن الأرض هى مركز الكون، تلك الأفكار والمعتقدات مازالت هى ذاتها التى يروج لها اليوم بعض الدعاة وتجار الدين، أولئك الذين ما برحوا يروجون بين المسلمين لتلك التصورات العلمية التى عفا عليها الزمن، والتى كانت سائدة فى عصر ما قبل النهضة العلمية منذ مئات السنين. أمثال هؤلاء الدعاة لن يقبلوا عن تخلف المسلمين بديلًا!! رغم أننا نعيش فى القرن الحادى والعشرين، فإن بعض الدعاة قد نجح فى تشكيل تصور بعض الناس عن العالم، بحيث أتى هذا التصور متطابقًا مع تصور عصور التخلف العلمي، التى نظرت إلى الأرض بوصفها مركز الكون.
فى بعض معتقداتنا الدينية التى يتم الترويج لها على يد من راجت تجارتهم اعتمادًا على انتشار التخلف بين المسلمين، لا يتم الانتباه أو التنبيه إلى احتمال وجود حياة على أحد الكواكب المليارية الأخرى المنتمية إلى مجرتنا، إن ضيق الأفق، والقفز على ما أنجزه العلم خلال مئات السنين الماضية، هو الذى يصور للبعض أن «الأرض هى مركز الكون»، ليس هذا فحسب، بل إن هذا البعض يصل به الشطط إلى حد القول «إن مكة هى مركز الكون»!! الهم الأكبر لهؤلاء الدعاة هو مخاطبة الناس عن عذاب القبر و«الثعبان الأقرع». المشكلة أنهم يلصقون تخلفهم بالإسلام، وإذا حاربت تخلفهم يتهمونك بأنك تحارب الإسلام، ولأن تصورهم للكون قاصر، فهم لا يرون فى الكون سوى المجموعة الشمسية والأرض مركزها، ويبنون تصورهم الدينى على هذا التصور العلمى القاصر، ومن ثمَّ اعتقدوا وهمًا أن الله هذا الخالق العظيم لا يشغله شىء سوى هذا الكوكب ضئيل الشأن المسمى «الأرض»، ولا يؤرقه أمر سوى ما يفعله هذا الكائن الضئيل للغاية المسمى «إنسان». تصور علمى قاصر يترتب عليه تصور دينى غير مكتمل. الله أعظم مما تتصورون، وكذلك الدين أيها المتربحون.