السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دروس من الصحافة الأمريكية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«أى تحقيق قد يكون إساءة لاستخدام السلطة.. نحن واثقون من أن وزارة العدل تفهم أن التعديل الأول للدستور يحمى جميع المواطنين الأمريكيين، وأنها لن تشارك فى مثل هذا الاستغلال الفاضح لسلطة الحكومة»..
هكذا ردت صحيفة «نيويورك تايمز» على تهديدات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بفتح تحقيق بشأن نشر الصحيفة مقالا الأسبوع الماضى لمسئول كبير فى الإدارة الأمريكية لم تسمه، والذى قال إنه جزء من المقاومة التى تعمل ضد «أسوأ اندفاعات الرئيس».
«نيويورك تايمز» أضافت فى بيان أصدرته، أول أمس الأحد: «تهديدات الرئيس تؤكد على ضرورة الحفاظ على هوية كاتب هذا المقال الافتتاحي، كتذكير بأهمية وجود صحافة حرة ومستقلة للديمقراطية الأمريكية».
كان ترامب قد حاول الضغط على وزير العدل جيف سيشنز، وطالبه بفتح تحقيق لمعرفة هوية كاتب المقال بدعوى أن النشر يهدد الأمن القومي.
الافتتاحية التى نشرتها «نيويورك تايمز» الأربعاء الماضي، وكتبها مسئول فى إدراة ترامب، كشفت أن الرئيس الأمريكى يواجه معارضة داخل إدارته لإحباط «أجزاء من أجندته وميوله السيئة».
وتحت عنوان «أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب»، وصف كاتب المقال كيف يواجه الرئيس الأمريكى «اختبارًا لرئاسته بخلاف ما واجه أى زعيم أمريكى معاصر»، مضيفًا «تعهدنا بفعل ما بوسعنا من أجل الحفاظ على مؤسساتنا الديمقراطية وفى الوقت نفسه عرقلة الاندفاعات الخاطئة للرئيس لحين أن يغادر منصبه».
وفى تفسير لقرارها نشر تلك الافتتاحية مجهّلة المصدر، قالت «نيويورك تايمز» إنها قامت بذلك نظرًا لأن «كاتب المقال وهو مسئول كبير بإدارة ترامب، سيتعرض منصبه للخطر إذا كشف عن هويته»، موضحة: «نعتقد أن نشر هذا المقال بشكل مجهّل هو الطريقة الوحيدة لتقديم وجهة نظر مهمة لقرائنا».
وأشار الكاتب فى المقال إلى أنه بالنظر إلى حالة عدم الاستقرار التى يشهدها العديد من الناس، كان هناك تهامس فى وقت مبكر داخل الإدارة لاستدعاء لتعديل الخامس والعشرين إلى المشهد، ما يعنى بدأ عملية معقدة للإطاحة بالرئيس. لكن أحدا لا يريد التعجيل بأزمة دستورية. مستدركًا: «لذا سنفعل ما بوسعنا لتوجيه الإدارة فى الاتجاه الصحيح حتى ينتهى الأمر بطريقة أو بأخرى».
تجدر الإشارة إلى أن الفقرة الرابعة بالتعديل الخامس والعشرين، تسمح بعزل الرئيس من منصبه إذا أعلن نائب الرئيس، جنبًا إلى جنب مع أغلبية من المسئولين الرئيسيين فى الإدارات التنفيذية أو أعضاء هيئة أخرى، يحددها الكونجرس بقانون، أن الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه.
ولفت الكاتب إلى أنه على الرغم من أن ترامب انتخب كمرشح جمهوري، إلا أن «الرئيس يظهر القليل من الميل إلى المبادئ التى طالما اعتنقها المحافظون وهى حرية العقول والأسواق والأشخاص» كما انتقد وصف ترامب للصحافة بأنها «عدو الشعب».
وتحدث المسئول عن طبيعة المقاومة الداخلية قائلًا: «لسنا مقاومة فى اتجاه اليسار الشعبوي، بل نريد أن تنجح الإدارة فى سياساتها التى جعلت أمريكا أكثر أمنًا وازدهارًا.. لكن علينا منع الرئيس من الاستمرار فى التصرف بطريقة تضر بصحة جمهوريتنا».
ووصف المسئول المقاومة الداخلية بأنها «هادئة» ويعتنقها أشخاص «يضعون الدولة فى المقام الأول من اهتماماتهم» مشيرًا إلى أن «الفارق الحقيقى سيتحقق على يد المواطنين الذين يرتقون فوق نزعاتهم السياسية لصالح شيء واحد هو الأمريكيين».
قبل نشر مقال «أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب» بأيام، تداولت الصحف الأمريكية مقتطفات من كتاب الصحفى الاستقصائى الأمريكى المخضرم بوب وودورد، «الخوف: ترامب فى البيت الأبيض»، الكتاب بحسب ما نشر عنه فضح «رعونة الرئيس الأمريكي»، ونقل عن مساعدين، حاليين وسابقين، لترامب، وصفهم له بأنه «أحمق وكاذب»، وتأكيدهم أنهم يتجاهلون أحيانًا تعليماته الخطرة، ومن بينها دعوته إلى اغتيال الرئيس السورى بشار الأسد.
وأكد الكتاب نقلًا عن مساعدين ترامب أنهم «أخفوا أوراقًا من مكتبه»، معتبرينه تهديدًا على الأمن القومي»، وهو ما أثار جدلًا حادًا داخل المؤسسات الأمريكية.
بطبيعة الحال اعتبر ترامب وأعضاء من إدارته والحزب الجمهورى الذى يمثله أن مقال «نيويورك تايمز» وكتاب وودورد، «تمهيد نيراني» يستهدف الجمهوريين قبيل انتخابات التجديد النصفى للكونجرس التى تجرى فى نوفمبر المقبل، واتهم ترامب وحزبه «الديموقراطيين» بمحاولة التأثير على العملية الانتخابية.
وبحسب مراقبين فإن الأزمات والفضائح التى تلاحق ترامب خلال الأسابيع الماضية، سواء الاتهامات الموجهة له بتعمده عرقلة التحقيق حول التدخل الروسى المحتمل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، أو الجرائم الأخلاقية المنسوبة له بعد اعتراف محاميه السابق مايكل كوهين أمام محكمة أمريكية بأنه دفع مبالغ مالية من أموال الحملة الانتخابية الرئاسية لامرأتين أكدتا أنهما أقامتا علاقة جنسية مع ترامب مقابل التزامهما الصمت، فضلًا عن شهادات مساعديه فى كتاب وودورد أو مقال «نيويورك تايمز»، كل ذلك سيدعم فكرة تمكين خصومه الديمقراطيين من أغلبية بمجلسى الكونجرس «النواب والشيوخ»، وهو ما يكفى للشروع فى بدء إجراءات عزله عن الرئاسة، وإن لم يحدث فيكفى أنها ستهدر فرص ترشيحه لفترة رئاسية ثانية.
ما تفعله الصحافة مع ترامب، ليس جديدًا على «صاحبة الجلالة» الأمريكية، ففى عام 1971 نشرت جريدة «واشنطن بوست» وثائق تثبت خداع وكذب أربعة رؤساء أمريكيين «ترومان، وإيزنهاور، وكينيدى، ونيكسون» للشعب الأمريكى، وفضحت ما يجرى للجنود الأمريكان فى فيتنام «رؤساء أمريكا أرسلوا جنودهم إلى هناك رغم معرفتهم بأن هزيمتهم ليست سوى مسألة وقت»، ورغم محاولات الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون لوقف نشر الوثائق إلا أن المحكمة العليا تصدت للمسألة قضائيًا وأصدرت حكمًا تاريخيًا وفقًا للتعديل الأول للدستور بأنه «ليس من حق الحكومة أن تحاول فرض رقابة على الصحف ولا أن تمنعها من نشر أى وثائق بحوزتها».
بعد واقعة نشر وثائق البنتاجون بشهور فجر الصحفيان بوب وودورد وكار برينستون فضيحة تجسس حملة نيكسون على مقرات للحزب الديمقراطى والمعروفة بفضيحة «ووترجيت» والتى ساهمت فى إسقاط نيكسون.
معارك الصحافة الأمريكية ضد جموح بعض الإدارات ومحاولات تدجينها، تحولت إلى درس ونموذج يحتذى به فى كل دول العالم الحر الذى تسعى دوله لإقامة مؤسسات قوية وراسخة على أسس وقواعد ديمقراطية مستقرة.
المجتمعات القوية المتقدمة تتعامل مع الصحافة باعتبارها «الحارس العام» على الدول ومؤسساتها وقيمها، أما المجتمعات الهشة الضعيفة فالصحافة فيها إما تابعة منقادة تنقل إلى ما يملى عليها، أو محجوبة محاصرة.
وفى المقابل الصحافة الحرة دليل على قوة وصلابة المجتمعات، أما تلك التابعة فليست دليلًا على ضعف المجتمعات أو استبداد الأنظمة فحسب بل على هشاشة القيم التى تأسست عليها تلك المجتمعات.