الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حيوانات وأرقام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
لو حدث وهبط على الأرض كائن فضائى ما- مثلما يفترض جماعة الخيال العلمي- وتأمل البشر جيدا، ثم سألناه: ما أهم ما لاحظته حول طريقة عمل العقل البشرى على كوكب الأرض؟ لقال: هو تقديس الحيوانات والأرقام أكثر من أى شيء آخر.
ستجد الفلاسفة يصفون الإنسان بأنه حيوان ناطق أو مؤمن (سقراط)، أو حيوان اجتماعى أو عاقل أو سياسى (أرسطو) أو حيوان ميتافيزيقى (شوبنهاور) أو حيوان متدين ومتمذهب (مارك توين)... إلخ إلخ... وإذا جئت إلى الشارع؛ فإنك كثيرًا ما سوف ترى الناس أمام شاشات التليفزيون يتفرجون على مشهد أسد ينقض على غزال ويقطعه إربا إربا، بكاميرات عالية وصور فصيحة وبالتصوير البطيء، (والغريب أن اسم القناة سيكون فى الغالب national geographic... كأنك ستجد منطق الحيوان المفترس أينما ذهبت من الجغرافيا وحيثما بحثت عن وطن على كوكب الإنسان الذى هو أيضا حيوان متفلسف (بليز باسكال). 
الشيء الآخر الذى سيستوقف «ميكروميجاس Micromegas» بطل «فولتير» الآتى من الفضاء فى القصة الفلسفية الشهيرة التى تحمل اسمه، هو هيمنة الأرقام على كل شيء فى العالم، وفى التعامل البشري، وهو ما سيدفع ميكروميجاس إلى التساؤل: لماذا تراهم يصرون على الحقيقة الرياضية وحقيقة الحتمية الحيوانية؟... وسوف ننتظر قرنا ونصف القرن من الزمن قبل أن يأتينا «ماكس فون فريش» ليقول: حذار فالحيوانات أيضا تجيد الحساب.
تنويعات
يحيلنا التركيز المرضى على الصياغة الرياضية للعالم على منحى العولمة الذى هو مثل منحى العلم الحديث عموما، إذ يهدف دائما إلى التنميط والنمذجة. ويبتغى الوصول إلى «مَنظمة» الوجود البشري، هذا الأخير الذى لم يتوقف عن التعبير عن التبدل والنزوع صوب تغيير الجلد. وجود حرباوى بشكل جوهري، رغم أننا نتعرف بيسر كبير على «الإنساني» داخل نشاط الإنسان، ونتعرف على ثابت لا اختلاف فيه، ولكننا نلمح مباشرة متغيرات ثابتة على تغيرها. الإنسان كائن مركب. مخاتل. متبدل. لا يثبت على حال. متناقض. شاذ. متطرف. هش. قوي. عبقري. تافه. يصارع طبائعه حينا ويتمتع بالخضوع لها حينا. ولا ثابت فى تاريخه سوى التحول والمفاجأة. لهذا يصعب على العلوم المنهجية الباحثة عن النماذج والأنظمة أن تحيط به. وربما يحدث أن تخضعه لهذه المنظومات بقوة، فتكون النتيجة الاستعمار مرة والاستئصال العرقى مرة، والجرائم ضد الإنسانية مرة ثالثة ورابعة وأكثر.
فى عام 1939 (ويا له من تاريخ مهم!) نشر الكاتب الإنجليزى الكبير هربرت جورج ويلز، كتابا مهما عنوانه «النظام العالمى الجديد The New World Order» يبشر فيه بنظام سياسى علمى اجتماعى مشكل من ميراث اليمين واليسار معا، سيأتى لتحسين الظرف البشري. وبعد ست سنوات ملأتها الحرب العالمية بما فيها من الفوضى العالمية بدلا من النظام العالمى سيكتب كتابه/الوصية «العقل فى نهاية مساره Mind at the End of its Tether» نافضا يده من البشرية جمعاء، ومعلنا أن عصر الإنسان قد ولى، وأنه لا بد من حلول «تطور» ما لهذا الكائن الذى لم يعد جديرا بالحياة... كان ذلك عام 1945 (ويا له من تاريخ مهم!).
السؤال الذى يتبادر إلى الذهن هو: أى الرجلين بين ويلز فى الثانية والسبعين وويلز فى الثامنة والسبعين، علينا أن نصدق لكى نأخذ صورة عن الإنسان عموما وعن إنسان تلك الفترة...؟
الغالب هو أن ويلز نفسه وهو أحد «الإنسانيين» الكبار، وهو اليسارى الفابى الحالم بغد أفضل للإنسان الفقير الذى كانه هو وأسلافه، هو نفسه ويلز الذى نعرف أنه أحد الرجال المهمين الذين فكروا وبشروا بالنظام العالمى الجديد -الذى يعد واضع مصطلحه الذى صار شائعا على كل الألسنة. نظام ربما يضمن من خلال المعرفة القدرة على الحلم بغد مختلف لا يحيل على كوابيس الأمس مثلما حدث فى القرن العشرين، نظام يحقق اليوتوبيا ويغير خريطة الأشياء ولربما «يعيد القدرة على إعادة الانبهار إلى العالم» حسب تعبير هايديجر الشهير.
أحد الأعمدة التى يقوم عليها هذا النظام هو الحلم الحداثى بإنسان جديد. إنسان بديل يعد «تطورًا» لإنسان الأمس المليء بالتناقضات، والذى يحلم أحلاما ملائكية فيما قلبه مليء بالغرائز الحيوانية. يبرر هذا الأمر الحرب الضروس على التقاليد التى يقودها منظرو النظام العالمى الجديد، الحرب على الأخلاق ذات المنشأ الدينى لفائدة الأخلاقيات التى هى ائتلافات إنسانية، والتى يمكن للغالبين من مهندسى الحياة أن يتصرفوا فيها كما يحلو لهم، فتجدهم فى عام حالمين وتجدهم بعد ست سنوات خائبين قانطين (مثلما كانت الحال حال هـ. ج. ويلز).
حرب على الدين والأخلاق والقيم الموروثة تعيدنا إلى القياس السقراطى ثم الأرسطي القديم للإنسان على الحيوان مع إضافات معينة، تحدد فروقا معينة بين الإنسان والحيوان، مع الإقرار بحيوانية الإنسان.
مسار العولمة يذهب فى اتجاه مختلف لمسار الإنسانية المعروف منذ أقدم الأزمنة، وربما معاكس له تماما، إذ تعيدنا الحقيقة الرياضية للعالم إلى نقطة التخلص من الصفات الزائدة لكى تعود بالإنسان إلى حيوانية آلية تحرمه من الذاكرة والتاريخ... من الندم والمراجعة... من العطف والحِلم والسماحة... على أن يكون أبعد ما تحلم به هذه المنظومة هو الحصول على شخص مسالم، أو جسد طيع (كما يقول ميشال فوكو).
زبدة القول
ربما كان فى ذهن «غوستاف فلوبير» تصور للحيوانات الأليفة وحيدة الاتجاهات وخطية المنظومة الأخلاقية حين قال قولته الشهيرة فى نقد الخيال الرومانسى- على هامش نقده اللاذع لـ«لامارتين»: «تصوير ملاك أيسر بكثير من تصوير امرأة».. والواقع هو أن واجبات الحقيقة وإلزاماتها الأدبية والفلسفية عسيرة على الهضم فى العموم، وفهم الحقيقة البشرية فى إطار من «التركيب» الذى دارت حوله فلسفة إدجار موران قد وجد له حلا تبسيطيا من خلال اختزالين اثنين: الحقيقة الفيزيائية أو البيولوجية التى تفسر الإنسان حسب أصوله الحيوانية. وكذلك الحقيقة الجبرية/ الحسابية التى نجد لها تمظهرين متقابلين؛ الأول فى الصياغات الرياضية التى تجد فيها أنموذجها الأجلى والأكثر فاعلية، وهى صياغات تعج بها علوم الطبيعة (حسب التقسيم الجميل لفيلهالم ديلطاي: علوم الطبيعة وعلوم النفس أو العلوم الإنسانية كما درجنا على تسميتها).. والثانى فى المظاهر الإحصائية التى تعج بها العلوم الإنسانية.
سيعود ميكروميجاس ليقول ملخصا حكاية الحيوانات والأرقام: هنالك مشكلتان؛ الأولى هى أن الإنسان لا يستطيع أن يكون كلبا يطيع سيده مثل باقى الحيوانات الأليفة. والثانية هى أن العقل الرياضى يقدر على كل شيء ولا يجرؤ على شيء جديد؛ لأنه مبرمج على إيجاد ما تعلم إيجاده وما تعلم كيفية إيجاده.