الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الخطاب الفلسفي وتأويل الشر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل الشر سابق على وجود الإنسان؟ أم أنه موجود بسببه؟ وإذا كان من صنعه، هل يُساق إلى فعله بصورة مستقلة عن إرادته؟ أم أنه حر فى فعله أو الامتناع عنه؟ وإذا لم يكن من صنع الإنسان، فمن المسئول عن إيجاده؟ لماذا تدعونا الأديان إلى محاربته واستئصاله من الوجود؟ لماذا تؤسس النظريات الفلسفية والأخلاقية، وتُسن القوانين والشرائع للتخلص من الشرور؟ ما وضع الإنسان ومصيره أمام مسألة الجبر والاختيار؟ لماذا ارتبط الشر بالخطيئة؟ 
لا شك أن مفهوم «الشر» يجعل من الفلسفة ذاتها إشكالية، ويفرض عليها أن تضع نفسها موضع التساؤل عن سبب وجودها ودلالة هذا الوجود؛ أو – كما يقول «بول ريكور» الفيلسوف الفرنسى الشهير – «إن الشر يمثل تحديًا للفلسفة واللاهوت على حد سواء، وهو تحد لا مثيل له؛ إذ يتخطى الواقع الإنسانى ليأخذ بُعدًا أنطولوجيًا يتركز فى عدم توافق الإنسان مع نفسه، وبالتالى عدم التناسب بين الذات والذات، هذا اللا تناسب هو نسبة اللا عصمة عند الموجود البشرى وهو ما يؤدى إلى تعثره ووقوعه فى الخطأ».
لقد سبق لـ«ليبنتز» أن حاول رفع هذا التحدى من خلال كتابه «العدل الإلهى»، فذهب إلى أن الله قد خلق العالم على أكمل وجه ممكن، وكأفضل ما يكون الكمال؛ أى أن حكمة الله تجعل من هذا الشر الموجود فى العالم باعثًا على خير أكبر وأكمل فى الكون. ولذلك يُعد الشر نتيجة لازمة لما هو أفضل، بمعنى أن السماح بالشر –على النحو الذى أقره الله– هو من أجل خيرية العالم. يقول «ليبنتز»: «إن تصور عالم بلا آلام أو شرور هو ضرب من الخيال أو اليوتوبيا، ذلك لأنه لو محا الشر من الوجود أصلًا، فلن يصبح هذا العالم على الصورة التى هو عليها الآن؛ ولم يكن بذلك أفضل العوالم الممكنة، فقد يتبع الشر أحيانًا الخير، وربما يؤدى اجتماع شرين إلى الخير. إذن من المبالغة أن نقول إن الشر يفوق الخير فى العالم».
لكن كيف يكون الله قادرًا ولا يمنع وقوع الشر؟ ثم أى مجد يمكن أن يُنسب إلى الله، والإنسان تعس وآثم وفى كل مكان توجد السجون والحروب والأوبئة؟ وتاريخ الإنسانية –كما صرح «بيير بيل»– ما هو إلا سجل حافل بالجرائم وخيبة الأمل؛ والمجد الحقيقى هو الذى يعنى أن يحقق الله للبشر النظام والسلام والطمأنينة، أما المجد الذى يستمده من شقائهم فليس إلا مجدًا زائفًا. هكذا عجز كتاب «العدل الإلهى» عن تبرئة الله من إثبات خيريته. وقد أشار «ريكور» إلى ذلك بقوله: «إن فشل هذا المفهوم للعدل ناتج من اللحظة التى نواجه فيها شرورًا وآلامًا لا تستطيع لكثرتها أن تُعوض بأى كمال معروف»، والشر إذا كان لغزًا بالنسبة لكثيرين، فذلك لأننا نضع المفاهيم والمصطلحات المختلفة فى قالب واحد عندما نتحدث عنه، أى نضع تحت مصطلح واحد، على الأقل فى التقليد الغربى اليهودى المسيحى، ظواهر متفرقة كالخطيئة والتألم والموت». 
وفى رأى «ريكور» أنه لكى نزيل الخلط فى دلالة الألفاظ، لا بد أن نميز بين الشر المُقترف أى الشر الذى تدينه الأخلاق والدين، والشر المتلقى أى الذنب الذى يكون موضوعًا للاعتراف، ويكون سببًا للاستجواب والمحاكمة، وهذا ما يجعل من الفعل الإنسانى موضوعًا للاتهام والتأنيب، ويتضمن تحميل الفاعل المسئول فعلًا من شأنه أن يكون ذا قيمة معنوية، أما الاتهام فيطبع الفعل بطابع الخرق للقانون الأخلاقى المهيمن لدى طائفة معينة، وأما التأنيب فيعنى حكم الإدانة للفاعل الذى يكون مذنبًا ويستحق العقاب، هنا يكون الشر المعنوى متداخلًا مع التألم، بحيث يصبح العقاب معه إيلامًا مفروضًا. ولجأ «ريكور» إلى معالجة هذا الخلط بين الشر والتألم وأيضًا الخطيئة حينما تحدث عن تأويل الرموز والأساطير.
عمل «ريكور» على اكتشاف الأبعاد الرمزية للأساطير خلال تحليله لمفهوم «الشر»، كى يستطيع تحجيمه والتخفيف من آثاره المدمرة. وقد رأى أن الأسطورة تعبر عن اللا وعى التاريخى للإنسان، الذى يتجول فى عالم الأساطير وما تحتويه من رموز، كى يمكن البحث عن أصل الشر وتفسيره. وإذا كانت الرموز الأولية – كما رأى «ريكور»– لا تحتوى على أى بعد من أبعاد الأسلوب القصصى، فإن الرموز الأسطورية تروى قصصًا عن أشخاص وأمكنة وأزمنة خرافية تتجاوز الواقع الموضوعى المحدد، وتشتمل هذه القصص على بداية تجربة الإنسان ونهايتها؛ وتمثل فيها الرموز الأولية ما يُعرف بالإقرار أو الاعتراف. والواقع أن الإنسان يقدم هذا الاعتراف بصورة رمزية يمكن تتبعها بفضل الطقوس المتعددة الخاصة بعملية الاعتراف ذاتها، والتى وضحها لنا تاريخ الأديان، بمعنى أن الذنب الذى يعترف به إنسان الأسطورة أمام آلهته ناتج عن اعتقاده وتسليمه بما ساقته تلك الأساطير من ذكر لغضب الآلهة، سواء التوراتية منها أو اليونانية أو البابلية أو غيرها؛ مع ما يرافق ذلك من تهديد ووعيد لهذا الإنسان، يجعله يعيش فى حالة قلق دائم على مصيره، كما يعنى الاعتراف –من جهة أخرى– إقرار هذا الإنسان بأنه ضحية شر قد اجتاحه أو حاصره. يقول «ريكور» فى هذا الصدد: «خلف كل لاهوت، وكل تأمل؛ بل خلف أى إنشاء أسطورى، فإننا ما زلنا نلتقى رموزًا، وتمثل هذه الرموز الأولية اللغة التى تعبر عن ميدان التجربة والتى نسميها تجربة الاعتراف، ولا توجد بالفعل لغة مباشرة غير رمزية عن الشر الذى يعترف الإنسان بمسئوليته عنه أو يعترف بأنه ضحية له».