الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«بوذا» والشباب وطريق الاستنارة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انصرف جماعة الشباب واتفقوا فيما بينهم على العزوف عن حضور محاورات حكماء الفراعين، بحجة أن معظم أحاديثهم مستغرقة فى المثالية، وأن أساليبهم أقرب إلى الوعظ والتوجيه منها إلى الجدل والمناقشة، أضف إلى ذلك، أن حضارتهم التى يتغنون بها قد أفل نجمها وأصبحت من الثقافات الغابرة، والتى لم تؤثر فى بنية الفكر المعاصر، وعليه لم تفلح فى دفع العقل الجمعى إلى الأخذ بثوابتها وقيمها العقدية والأخلاقية فى إعادة بناء الشخصية المصرية، أما نتاجهم العلمى فقد حملته برديات أثرية وتغنت بها كتب التاريخ. 
وقرر جميعهم البحث عن خطابات أخرى كتبها أصحابها للشباب، واستطاعت مضامينها مواكبة الحضارة العلمية المعاصرة، الأمر الذى جعل الغربيين أنفسهم ينتحلونها ويدينون بتعاليمها جنبا إلى جنب التقنيات العلمية والاختراعات التطبيقية، والممارسات الحياتية. واستقر رأيهم على قراءة «شذرات بوذا» (٥٦٣-٤٨٣ ق.م) ذلك الفيلسوف الهندى الأشهر، والذى ما زالت تعاليمه مبعث الرقى والتقدم والإتقان فى الصناعة واستقامة السلوك فى أكثر البلاد تقدما الآن، بعد اجتياز سنوات الجمود والتخلف مثل الهند واليابان وكوريا، حتى أضحى عدد الذين يدينون بتعاليمها أكثر من ستمائة مليون نسمة فى العالم.
ولما سمع قلمى حديث الشباب وقرأ ما كتبوه على صفحاتهم الإلكترونية، وتعقيبات أدرابهم التى وافقت هواهم، همس فى أذني قائلا: «إن هذا الجيل امتلك من العجلة والتمرد وعدم القدرة على فحص ما يطرح عليه من خطابات بقدر حرمه من الاستفادة والتعلم من جهة، والقدرة على نقد الذات من جهة أخرى، ورغم ذلك فإننى أدعوك أيها الكاتب أن تستحضر «شذرات بوذا» وتواجههم بها، وأنصحك هذه المرة أن تترك لهم قيادة الحوار، فتقدم أسئلتهم ثم تجعل الشذرات البوذية تجيب عنها». 
وبدأت فى كتابة المحاورة الرابعة:
أحد الشباب: يا معلم، هل هناك تعارض بين الحرية والاستنارة والانصياع للقيم الأخلاقية وتحقيق السعادة على الأرض؟ 
الفيلسوف بوذا: إن معظم كتاباتى جاءت فى صورة تعاليم ومبادئ لا ينبغى العدول عنها، وقد زودت بها تلاميذى ورفقائى ممن كانوا فى مثل أعماركم، ولما سألونى عن الحرية أجبت: اعلموا يا أبنائى أن الفعل الحر هو الذى يقوى على التخلص من قيود الشهوة وسجن الرغبات والمطامع المادية، وحصار الكبر والأنانية، وهو لا ينطلق إلا من إرادة مستقلة واعية وعاقلة ومستنيرة، وأن هدفها الأسمى هو التعاون بين كل البشر والتفانى فى إسعادهم، وتجنب أى مظهر من مظاهر العنف فى رحلة الوصول إلى الغايات التى تمكن الفعل من أن يكون على النحو السابق. إنى أقول لكم ناصحا: حافظوا على مكانتكم فى الحياة وأقبلوا فى رضا ومثابرة وصبر على قضاء مآربكم منها، فحبوا ما تعملوا وأتقنوا فى ما تصنعوا، واعلموا أن البون شاسع بين المطامع والمطامح، والغبطة والحسد، فالثروة والمناصب والسلطة ليست غاية فى ذاتها ولا سبيلا للترأس أو القيادة، ومن ثم لا يجب أن تشغلكم ويصرفكم عناء البحث للوصول إليها عن كدكم وإخلاصكم لما تعملون. ويسأل شاب آخر: أيها الحكيم بوذا: ما السبيل الذى يمكننا من استحالة الإلزام إلى التزام؟ أعنى أن تصبح كل القيم الأخلاقية الراقية إلى بواعث تصدر عن الأنا الحرة التى حدثتنا عنها. 
بوذا: كتبت فى ذلك من تعاليمى الكثير فأوجزت تارة وأطنبت تارة أخرى، ويمكنكم مطالعة ذلك فى أحاديثى عن الطرق الثلاث للاستنارة، والقيم الأربعة، والقوى الخمس المؤثرة، والطرق السبع للعطاء، والطرق الثمانى النبيلة، وذلك فضلا عن الوصايا العشر، ويمكننى أن أوجزها جميعا فيما يلى: فأول الثلاثة فى السلوك، الخير النابع من النفس الناقية والمشاعر الراقية، وثانيها فى النظرة العاقلة المنطلقة من الحصافة والقدرة على التركيز وإمعان النظر فى كل الأمور، ثم الحكمة وهى النتاج المنطقى لاعتدال السلوك واستقامة العقل، فتأتى للأناة فى التقييم والتقدير وحسن الاختيار والموازنة والرجاحة فى الحكم. وإذا ما انتقلنا إلى المبادئ أو القيم الأربعة فأولها عفة البدن وطهارته وخلوه من أى دنس أو قبح مذموم، وثانيها العزوف عن اللذائذ الحسية، فالشهوات المادية دائما ما تكون علة الألم، وهى على العكس من اللذائذ الروحية والعقلية. وثالثها أعمال الذهن فى كل شىء للوقوف على العلل الكونية والأسباب المباشرة وغير المباشرة لحدوث الحوادث، ثم تهيئة الذهن لتلقى الإلهامات العلوية ليفيض الإبداع، ورابعها العزوف عن القطع فى الحكم أو الرأى، وذلك أن ما فى الكون من معارف فى سيرورة دائمة، فالحذر كل الحذر فى الاستبداد بالرأى أو الإطاحة بالرأى المخالف. وهناك سبلا لممارسة هذه المبادئ أو القيم، وهى أربعة أيضا: أولها اجتناب كل أمر أو شىء يمكن أن يوصل للشر، وثانيها التخلص من كل مظاهر وظواهر الشر واستئصال جذوره عند إدراكك له قبل أن ينمو ويتغلغل فى نفسك وعقلك، وثالثا الإقبال على كل فعل يؤدى إلى قول أو عمل صالح وخير نافع بعد اختبار مآلاته، ورابعها العمل على إثراء وتنمية كل نوازع الخير فى النفس وجذور الرغبة فى الإصلاح دون توقف، وإن عانيت فى ذلك وتألمت أثناء محاربتك للشر والفساد. وتنبه يا بنى إلى القوى الخمس المؤثرة وهى: أولها الثبات على المبدأ، والإخلاص فى المعتقد بعد اختبار وقناعة، والإيمان بغير تعصب، وثانيها قوة الإرادة والمثابرة والمجاهدة والعمل المستمر حتى الوصول إلى تحقيق الهدف، وإن بدت العوائق أمامك مستحيلة لا تقهر فاعلم أن ذلك وهم وعليك الانتصار عليه. وثالثها اليقظة وهى نقيض الكسل والبلادة والتبعية والخمول والاستسلام، ورابعها تدريب الذهن على استقبال اللحظات الملهمة وتحصيل ما تحويه من معارف، وذلك عن طريق كثرة التأمل، وآخرها حماية الحكمة باعتبارها ثمرة كل ما فات من مبادئ فلا تخرجها من قلبك وعقلك فتلتهمها الأهواء ويبتلعها الشر. أما عن سبل العطاء فهى سبعة، أولها العطاء المادى وهو غير قاصر على الأثرياء فقط، بل للفقراء نصيب فيه أيضا، فإذا كان الأثرياء يجودون بالمال والطعام والكساء، فإن الفقراء يجودون بالمروءة والنجدة والشجاعة ومساعدة الأغيار، وثانيها العطاء الروحانى ويتمثل فى الحب والمودة والرحمة والتسامح والنصح والإيثار والعطف والرفق بكل الموجودات، وثالثها التماس العذر للآخرين والعفو عن النادمين والغفران للتائبين وحماية المقهورين ورعاية المرضى والمعاقين، ورابعها العمل على إسعاد الآخرين ونشر السرور بينهم بداية من الابتسام عند اللقاء ونهاية بالاستجابة للسائلين بلا رجاء، وخامسها تقديم الطيب والحسن والجميل فى كل وقت والإقلاع تماما عن كل لفظ أو فعل يترتب عليه ضرر أو غضب أو عبوس من الآخرين، وسادسها الإيثار وهو التنازل طواعية عن كل مكانة أو منصب أو ريادة لمن ترى فيه الكفاءة والكمال والأهلية، وآخرها الكرم وإيواء المعوذين وإن اقتسموا معك رغيفك ولحافك. 
فوقف أحد الشبان مخاطبا رفاقه: هل هذا معقول؟ وهل تلك القيم والمبادئ مطبقة بالفعل؟ وهل عوائد ونظم اليابانيين على وجه الخصوص هى التى أثمرت الشخصية اليابانية المعاصرة، والتى ننشد محاكاتها ونرغب فى اللحاق بها؟ وهل هذه المبادئ هى التى نقلت كوريا من منزلق التخلف إلى ذروة التقدم؟ وإذا كان هذا صحيحا، فإننى لا أجد فارقا كبيرا يميز تلك التعاليم والنصائح البوذية عما استمعنا إليه فى محاورتنا مع حكماء الفراعين، فهل العيب فينا نحن معشر الشباب؟ فرد عليه شاب آخر: السر فى إرادة الأنا، والرغبة الصادقة فى إصلاح ما بداخلنا أولا، ثم الإصرار على معالجة ما فى المجتمع. 
شاب ثالث: دعونا نستمع إلى باقى برنامج بوذا فى المحاورة التالية. 
وللحديث عن ذلك بقية