الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

استروكس التواصل الاجتماعي..!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت طريقة تعامل مواقع التواصل الاجتماعى مع قضية مقتل طفلى قرية ميت سلسيل غرقًا فى مياه النيل، أحد الأسباب الرئيسية لإثارة حالة من البلبلة وانعدام اليقين والتشكك فى مسار التحقيقات الجنائية، والتى دفعت بعض أهالى القرية إلى التظاهر أمام مركز الشرطة لإعلان رفضهم التسليم باعتراف الأب بإلقاء طفليه من أعلى كوبرى فارسكور.
أصوات القنابل المسيلة للدموع التى فرقت المتظاهرين لم تكن سوى صدى صوت لميكروفونات منابر ومنصات التواصل الاجتماعى، التى اعتلاها من نصبوا أنفسهم خبراء فى البحث الجنائى.
ما أن نشر خبر اختفاء الطفلين، حتى انبرى هؤلاء الخبراء يدلون بدلوهم، ويؤكدون بشكل قاطع تورط عصابات الاتجار فى الأعضاء البشرية، وبعد العثور على جثة الطفلين فى نيل فارسكور صارع خبراؤنا «اللوزعيون» إلى تغيير أحكامهم السابقة، ليوجهوا أصابع الاتهام على نحو لا يقبل الشك إلى عصابات تهريب الآثار استنادًا لإحدى الروايات التى ساقها الأب المتهم بقتل طفليه فى بداية التحقيقات.
ومع اعتراف الأب أمام النيابة العامة بارتكاب الجريمة غير الخبراء زى ضابط البحث الجنائى ليرتدوا ثوب القاضى ويحكمون ببراءة الأب، حكمًا نهائيًا وباتًا، فملاك منصات التواصل الاجتماعى يمتلكون الحقيقة المطلقة التى لا تقبل مجرد النقاش.
تعامل مواقع التواصل الاجتماعى مع قضية طفلى ميت سلسيل تقدم نموذجًا صارخًا لسوء استخدام مجتمعنا لتكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة، فبدلًا من أن تكون وسيلة لتوطيد أوصال العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والأسر التى باعدت بينها سبل الحياة وتبادل الصور والعبارات الحميمية أصبحت وسيلة للتنابذ وتوجيه السباب والشتائم، والتباعد بين سكان البيت الواحد.
وبدلًا من أن تصبح طريقة للحصول على المعلومات الموثقة من مصادرها، وتبادلها لإشاعة الوعى والتنوير فى المجتمع، صارت وسيلة لنشر وجهات النظر والآراء الشخصية باعتبارها معلومة وأخبارا مؤكدة للحصول على أكبر كم من الإعجابات والمشاركات والتعليقات، التى كلما زادت زاد إحساس صاحب الحساب بأهميتها وقوته وقدرته على التأثير ومع الوقت تحول بعض أصحاب الحسابات الشخصية من مواطنين عاديين إلى مصادر أخبار ومعلومات توازى المصادر الرسمية، وإلى كتاب كبار وخبراء فى العلوم السياسية والعسكرية والاستراتجية ولا بأس من أدوار علماء الاقتصاد والفلسفة والدين.
قطعًا مثل هؤلاء الذين تتحول آراؤهم وأفكارهم إلى شائعات تغذو المجتمع لا يعملون بتوجيه من أجهزة مخابرات معادية وجماعة الإخوان الإرهابية فأغلبهم طيبون حسنوا النية، فقط تضخمت ذواتهم عندما اعتقدوا إن الإعجابات والتعليقات التى تصل إلى المئات، قد جعلت من صفحاتهم الشخصية صحفًا وفضائيات.
لكنهم ومن حيث لا يدرون جعلوا من حسابتهم أدوات تعمل لصالح منصات إطلاق الشائعات والأكاذيب التى دشنتها جماعة الإخوان الإرهابية وحلفاؤها.
وأصبح من العادى أن تجد موظفا بسيطا أو مهندسًا أو طبيبًا أو محاميًا أو مقاولًا أو صاحب محل بقالة أو عامل فى ورشة ميكانيكا يكتب تحليلًا سياسيًا لما سميت بصفقة القرن، أو يقدم روشتة لعلاج أزمات الاقتصاد المصرى وأزمة سد النهضة أو تحليلًا لعلاقتنا مع أمريكا.
بالطبع تنطوى تلك الآراء على معلومات مؤكدة من وجهة نظر صاحبها رغم أنه لا يمتلك خبرة الحصول على المعلومة من مصدرها وتدقيقها وتوثيقها، ويعتبر مجرد تصحيحها له طعنًا فى شخصه رغم أن افتقاد هذه الخبرة أمر لا يعيبه، فببساطة ليست تلك مهنته فلا هو باحث ولا هو صحفى هو فقط مستقبل للمعلومة.
أعلم أن بعض الشخصيات العامة قد أصيبت بنفس الداء بنشرها شائعات وأكاذيب، أو آراء فى غير تخصصاتهم سعيًا وراء الإعجابات والتعليقات المؤيدة، وهذا ما يؤكد أننا نستهلك وسائل التكنولوجيا الحديثة لنفس طريقة استهلاكنا المفرط للسلع الترفيهية، وللفتاوى الدينية فى كل ما يتعلق بالمظهر.
المجتمع الذى لا ينتج من الطبيعى أن يكون أكثر المجتمعات استهلاكًا لكل شىء مهما كانت درجة تفاهته، ولأننا لا ننتج المعرفة فكان من الطبيعى أن نستهلك وسائلها وأدواتها معتبرين أن ما فى عقولنا الفارغة من أى معرفة حقيقة هو كل شيء فاستخدمنا تكنولوجيا المعلومات الحديثة فى اقترار اللا شيء الذى لدينا لا الوصول إلى المعلومات والمعرفة التى تتيحها تلك التكنولوجيا.
لذلك نبدو ونحن ندير حسابتنا على مواقع التواصل الاجتماعى كمتعاطى الاستروكس العقار المخدر الذى يجعل متعاطيه يتصور أوهاما وخرافات باعتبارها حقائق ووقائع.
القانون وحده كفيل بمعالجتنا من تعاطى الاستروكس عند صعودنا على منابر التواصل الاجتماعى، ولا أتصور أن الأمر بحاجة إلى قوانين كثيرة تزدحم بالعقوبات غير الرادعة بحسب تعبير أحد النواب أثناء تعليقه على العقوبات المنصوص عليها فى قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية.
ويكفى أن تطبق نصوص مواد قانون العقوبات فى جرائم السب والقذف ونشر الشائعات والأكاذيب، أو مواد تتسبب فى بلبلة الرأى العام حتى يعرف الناس حدود ما ينشرونه على حساباتهم الشخصية كما هو معمول به فى دول العالم المتحضر.
وكما يحظر النائب العام النشر فى الصحف لبعض القضايا حتى لا يتم التأثير على مسار التحقيقات فيها ينبغى أن يصدر تشريع يحظر على مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى الخوض فى أى قضايا تنظرها المحاكم، لأنها وبحكم سرعة انتشارها واتساع مدى تأثيرها تستطيع إثارة الشكوك والتوترات وإحداث البلبلة لدى الرأي العام بقوة تفوق تأثير الصحف على نحو ما رأينا فى قضية مقتل طفلى ميت سلسيل.