الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سيطرة الأفكار

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى كثير من الأحيان تتملك المرء «فكرة محورية» أو مجموعة أفكار تأسره وتوجه حياته وجهة معينة، ويحدوه الأمل أن تتحقق هذه «الفكرة المحورية» على النحو الذى يرجوه، إن هذه الفكرة المحورية هى أقرب ما تكون إلى حلم يقظة، أو تحقيق ذات، أو طموح خلّاق، قد تكون هذه الفكرة مرتبطة بمنصب رفيع يتمنى المرء أن يشغله، أو مشروع تجارى يفكر فى تحقيقه، أو ابتكار علمى يتمنى إنجازه، أو فوز سياسى يجتهد من أجل الوصول إليه، أو اعتقاد دينى يستحوذ على كل وجدانه ويوجه سلوكه. مثل هذه الأفكار تتبلور فى ذهن المرء فى سن مبكرة من عمره وتسيطر عليه طوال حياته حتى مماته. يختار المرء هدفًا معينًا ويضعه نصب عينيه كأنه صنم معبود، يكرس حياته كلها بغية إنجازه، وتمضى السنون وهو يلهث وراء هدفه ساعيًا لتحقيقه، قد ينجح فى اللحاق به أو يفشل، وهنا يبرز سؤال: 
هل، ونحن نسعى لتحقيق أهدافنا التى رسمناها لأنفسنا قد تمكنا أن نعيش حياتنا ونستمتع بها؟ أم أهدرنا أجمل سنوات عمرنا؟ بل أهدرنا عمرنا كله نلهث وراء فكرة ظنناها محورية، نضحى من أجلها بأشياء وأشياء يعادل مجموعها حياتنا نفسها، ومن ثمَّ ننتبه بعد أن نفقد كل شيء أننا كنا نطارد خيط دخان، هذا هو المغزى الفلسفى لرواية نجيب محفوظ «حضرة المحترم»، التى فرغت من قراءتها للمرة الثانية خلال الأسبوع المنصرم، وكنت قد قرأتها أول مرة فور صدور طبعتها الأولى عام ١٩٧٥، عن مطبعة مصر بالفجالة.
لن أقف طويلًا عند الجوانب الفنية لهذا العمل الأدبي، إذ التركيز على المضمون الفكرى لرواية نجيب محفوظ، هو ما يخصنى بحكم تخصصى بوصفى أستاذًا للفلسفة؛ فهذه الرواية قد عُولِجَت من قِبَل نُقَّاد أدب لهم كل التقدير، وإنه ليروق لى إلقاء الضوء على المضامين  الميتافيزيقية والاجتماعية والثقافية لهذا العمل الفني، فالمؤلف يتناول على لسان «عثمان بيومي» الشخصية الرئيسية للرواية، قضايا فكرية وسياسية وأحيانًا فلسفية علـــى جانب كبير من الأهمية. 
أحداث رواية «حضرة المحترم» تتمحور حول شخصية واحدة، ولا أهمية لشخصيات الرواية الأخرى إلا من حيث إنها تنير بعض جوانب الشخصية الرئيسية. منذ السطور الأولى للرواية يدرك القارئ أن الشاب «عثمان بيومي» الموظف الجديد كان مبهورًا ومسحورًا بما يرى ويشاهد حين دلف إلى حجرة «صاحب السعادة المدير العام» بهره ما رأى، وسيطرت عليه «فكرة محورية» هى أن يحتل هو يومًا هذه الغرفة ويجلس على المكتب الفخيم الذى يجلس عليه «صاحب السعادة المدير العام».
إن ما تمناه «عثمان بيومي» هو أن يصل إلى درجة «مدير عام»، والتطلع للترقى فى السلم الوظيفى أمر مألوف فى جميع المصالح والمؤسسات، فمن الناس من يتمنى أن يصل إلى درجة «أستاذ» بالجامعة، وآخر يتطلع أن يصير رئيسًا لمحكمة، وغيره يطوق للحصول على رتبة «اللواء» فى الجيش أو الشرطة، كل من يحلم أو حلم بتحقيق فكرة معينة، كرَّس حياته كلها من أجلها. وهذا بالضبط ما فعله بطل رواية حضرة المحترم - وهذا ما نفعله جميعًا. 
إن جاز لنا التبسيط - وهو أمر لا يجوز عند الحديث عن أدب نجيب محفوظ - قلنا إن «حضرة المحترم» رواية عن الوظيفة الحكومية، وإن بطل الرواية «موظف»، هذا صحيح، غير أنه صحيح أيضًا وبالقدر نفسه، أنها رواية فلسفية عن الوجود والفناء، وعن دورة الحياة، وعن الإنسان أسير الماضى والحاضر والمستقبل، وعن حقيقة الجبر والاختيار فى حياتنا، كل ذلك من خلال رحلة حياة موظف مصرى من الدرجة الثامنة حتى درجة مدير عام. (محمد عبد الله الشفقي، حضرة المحترم، ضمن كتاب: الرجل والقمة - بحوث ودراسات، اختيار وتقديم فاضل الأسود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٩، ص ص٤٠٢ - ٤٠٣).
فى هذه الرواية، تتجلى بوضوح شديد، تسلط الفكرة على حياة المرء، فها هى الوظيفة صارت مدار حياة «عثمان بيومي»، وقد تملك وجدانه كله طموح أن يصبح مديرًا عامًا، حتى ضحى بكل شيء من أجل تحقيق ذلك؛ ضحى بالحبيبة؛ ضحى بفتاته «سيدة» التى أحبته حبًا جمًا، وكان يبادلها حبًا بحب، لكن بسبب إدراكه أن الحب يعقبه زواج، والزواج له مسئولياته ويتطلب مصاريف؛ مما يترتب عليه انشغاله عن تحقيق هدفه، تملص من الزواج بها، وتركها تتزوج بغيره. 
ومن هنا راح عثمان يبتدع أنواعًا شتى من الأكاذيب حتى يفلت من الوقوع فى براثن الزواج، الذى كان ينظر إليه بوصفه عائقًا رئيسيًا، يحول دون وصوله إلى هدفه. فرئيسه المباشر فى العمل «سعفان بسيوني» رغب أن يزوج ابنته لـ«عثمان بيومي»، فدعاه إلى بيته، وجعل ابنته تقدم له الشراب، لكن عثمان أفلت من هذا الشرك المنصوب مدعيًا الفقر. لجأ إلى الكذب زاعمًا أنه لولا الظروف القاسية لأكمل نصف دينه، وحين سأله «سعفان بسيوني» عن تلك الظروف قال كاذبًا: فى عنقى صغار وأرامل. ما أنا إلا ثور معصوب العينين يدور فى ساقية. (حضرة المحترم، ص ص ٣٥ - ٣٦).
إنه بحاجة إلى دفء إنسانى حقيقي، إلى عروس وأسرة، لم يعد يحتمل أن يحترق فى الحياة وحيدًا، ما أحوجه إلى أنيس فى هذا الكون المكتظ بملايين الأكوان! (حضرة المحترم، ص ٧٩). ها هى طليعة الشيب تغزو رأسه، الحياة المجيدة تنقضى كالحياة التافهة، وكم تبقى له من الزمن يا ترى؟! (حضرة المحترم، ص٩٨). وقال لنفسه إن أحدًا لا يعلم الغيب، ولذلك يتعذر الحكم الشامل على أى فعل من أفعالنا، بيد أن تحديد هدف للإنسان يعتبر هاديًا فى الظلام وعذرًا فى تضارب الحظوظ والأحداث، فهو مثال على ما يبدو أن الطبيعة تترسمه فى خطواتها اللانهائية (حضرة المحترم، ص ١٢٦). 
إن تسلط فكرة أن يحصل على وظيفة مدير عام جعلته يدهس تحت قدميه كل شيء، صحيح حصل وهو على فراش الموت على الوظيفة ولكن بعد أن خسر حياته. إن العمر أسرع من كل حركات الترقية (حضرة المحترم، ص ١٤٠). وبفضل السن نحقق كل شيء، وبسببه نخسر كل شيء (حضرة المحترم، ص ١٧١). هل يستطيع الإنسان فى يوم الحساب أن يقدم خيرًا من طموحه النبيل وعمله المقدس وتقدمه الثابت وسجلًا بالخدمات التى أداها للدولة والناس؟ (حضرة المحترم، ص ١٦٧).
إن ما يوفر لنا بعض الطمأنينة هو اعتقادنا بأن الموت منطقي، يمارس وظيفته من خلال مقدمات ونتائج. ولكنه كثيرًا ما يدهمنا بلا نذير كالزلزال (حضرة المحترم، ص ١٤٧).