الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإبداع الأدبي والعيش خارج القاهرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى «خلوة الغلبان» للأديب الكبير إبراهيم أصلان مقولة أعشقها ودائمًا ما تنقذنى كلما اختلت الرؤية أمامى وهى «على الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء، شرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها ألا ينكسر قلبه»، وهى ما أتفق تماما معها فأنا مثل كل الناس أعيش وأراقب وأفرح وأحزن ولذا تشغلنى منذ فترة فكرة المكان والإبداع. عطاؤه الذى يشكل وجداننا ويكون ذائقتنا ويربى وعينا منذ ولادتنا. فنرى الإسكندرية وكفر الشيخ، تتألقان بألوان الفنون التشكيلية ونرى المنصورة تتألق شعريا ونرى المحلة وأسيوط تتألقان سرديا وغيرها الكثير. لا أتحدث هنا عن المحافظات بشكل استقصائى ولا عن الفنون الأخرى كالسينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية وغيرها. وسؤالى الملح هنا هو إلى أى مدى يمكن أن نظل مرتبطين بالمكان الأم، وإلى أى مدى تخطفنا القاهرة كنداهة لا يقدر على صد غوايتها إلا زاهد أو حكيم يقيس الحاجة على قدر الفائدة منها وإلى أى مدى يخسر المبدع خارج القاهرة أو يكسب؟ تساؤلات وليست سؤالا واحدًا تختلف إجابتها حسب تجربة كل واحد منا. لا توجد إجابة صحيحة أو إجابة خطأ فكل الطرق سواء لسالكيها ولكل ظروفه التى تختلف عن ظروف غيرها من التجارب لكننا حتما نتفق فى نقاط لا يمكن التشكيك فيها. منها أن الفعاليات الكبرى غالبا ما تعقد فى القاهرة وبنسبة لا يمكن مقارنتها بالمحافظات على مدار العام، ومنها أن الصحف الكبرى سواء مصرية أو عربية أو عالمية موجودة بالقاهرة. ومنها أن توافر فرص العمل المرتبطة بالمجالات الأدبية التى تستلزم التواجد والحضور موجودة أيضا بالقاهرة. والأهم من ذلك كله هو التواجد الإنسانى وسط التجمعات الأدبية ومعرفتهم كأشخاص وما ينتج عنه من إقامة علاقات خلاقة تحدث حراكًا يصقل التجربة بشكل أو بآخر فالاقتراب من الكبار يعلمنا بلاشك. كل ذلك يعد مشروعًا بل ولزاما علينا نحو الإبداع ونحو أنفسنا. من حقنا أن نكرس لأنفسنا ولموهبتنا. أن ننتشر ونتواجد أن نكسر عزلتنا ونتعرف على أكثر من معين ثقافى من حولنا فهناك تواشج ومرآوية لا يمكن أن ننكرها هذا بالإضافة إلى حق الموهبة، النعمة التى أنعم الله بها علينا، العين الثالثة التى تبصر العالم وتترجم رؤيتها فى صورة إلهام أدبى تقدمه إلى الآخرين ونحرر نحن أنفسنا منه حتى لا يقتلنا الاغتراب فما من كاتب إلا ويعرف طعم الاغتراب يخبئه أو ينكره أو يعترف به إلا أننى أؤمن بوجوده. وبذلك ترجح كفة مغادرة مكان ولادتنا وإقامة عائلاتنا والهجرة الداخلية إلى القاهرة لمن استطاع إليها سبيلا. بينما يبقى من يبقوا فى أماكنهم يبدعون أعمالا، ينظر إليها بعض ممن هاجروا إلى القاهرة على أنها أقل جودة فى حين أن منهم من نضجت تجربته ورسخت قدمه وتحققت ملامح عوالمه وفضل أن يترك القاهرة ويعيش فى محافظته أو اختار أن يحيا فى مكان ناءٍ بمحض إرادته ولاء منه لإبداعه. الأمر الأكثر حزنًا هو تكريس الأدباء فى المحافظات ذاتهم لتلك النظرة، فمنهم من لا يهتمون بإبداع أنفسهم أو إبداع من حولهم قدر اهتمامهم بإبداع أدباء القاهرة أو من يحيون فيها. أو العكس نرى من يكرسون لأنفسهم ويعتنون ببعضهم فى محافظاتهم فى دوائر ضيقة لا تحتوى المشهد كله. لكن البعض ينفلتون من كلا المعسكرين ويتعاملون بحيادية تضمن النجاح لتجاربهم وتجارب الآخرين وتمنحهم أكثر من ثقة وأكثر من حضور تحت راية كبيرة تسمى الولاء للإبداع حتى وإن اختلفت مع صاحب هذا الإبداع الولاء للإبداع، وإن لم يكن صاحب هذا الإبداع من دائرة معارفنا. الولاء للإبداع فى أى مكان، بعد أن صارت التكنولوجيا بثورتها فى الاتصالات تشبه الفانوس السحرى بلمسه منا له نرسل المقال وبلمسة نتحاور وبلمسة تحضر إلينا آلاف الكتب والمراجع وبلمسة نتحدث فى الوقت ذاته معًا من المغرب وأمريكا والأندلس وألمانيا وأى بقعة فى مصر قد تكون نجعًا أو قرية. انتفى وجود الحاجز الثقافى وتقوضت هيبة المكان فماذا عليكم الآن من تلك التقسيمات الفارغة؟ لنبدع أينما نشاء ووقتما نشاء ونقرأ ونناقش كل ما نشاء وكل ما حولنا بتعادلية لا تفرق بين أدباء العاصمة وأدباء خارج العاصمة. فمن لديه حرية العيش خارج القاهرة قد يحسده من يعيش داخل القاهرة، ولا يملك تلك الرفاهية. ولعلنى فى هذا السياق أذكر أن باولو كويلو يعيش فى مدينة تارب الفرنسية الريفية كما قرأت، والروائى العراقى جبار ياسين يقيم خارج باريس فى بلدة لاروشيل، والشاعر الأمريكى الكبير سام هاميل اختار أن يعيش بعيدا عن نيويورك التفاحة وواشنطن العاصمة فضل أن يبنى بيتا كغابة جميلة واستوديو للكتابة اليومية منفصلا عن بيته بعيدا فى بورت تاون سيد وغيرهم كثيرون. ليس هناك خطأ أو صواب فى المكان الذى نختاره للعيش كمبدعين وطرق الكتابة التى ننتهجها. لكن الخطأ كل الخطأ ألا ننظر للجميع نفس التقدير ونفس درجة الاهتمام.