الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قلعة ديكارت الخفية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
حينما قال ديكارت مقولته الشهيرة «cogito ergo sum in arcem meum» لم يكن يعلم أنها ستترجم وتشيع عنه منقوصة، فالترجمة الكاملة هى «أنا أفكر فأنا إذن موجود فى قلعتى»... والسؤال مطروح حول سبب إسقاط تكملة المقولة «فى قصرى أو فى قلعة فكرى أو داخل ذهنى». 
الإجابة السريعة على طريقة الأمريكان هى أن اهتمام عصر الأنوار لم يكن اهتماما بمواقع الفكر ولا بمحلات الأنا بل كانت بالأنا وهى تستحوذ على فعل التفكير. ومعلوم طبعا أن عصر الأنوار؛ وهو الوريث الأكبر لديكارت قد كان يحلم بنوع من «الأممية العقلانية»، ونوع من البحث خارج المكان عن «أنا» صالحة لقراءة موسوعة «دينيس ديدرو»، للهجوم على الكنيسة، ولصلب أواخر رجال الكنيسة بأمعاء أواخر النبلاء حسب الصيغة الشهيرة.
تنويعات
تأتى بعد ذلك إجابة أكثر تأنٍ وأقل بهرجة من تلك الأمريكية فتعيدنا إلى أفريقيا؛ سيقول فرحات عباس: «لقد جاءت اللغة الفرنسية إلى الجزائر مستعمرة، وهى نفسها اللغة التى سنستعملها ضد الفرنسيين لكى نخرجهم من بلادنا».
إجابة متأنية ستقف محللة أنا «فرحات عباس» التى هى أنا حدية...لا فرنسية كما يوحى بها «اللوغوس» logos ولا هى جزائرية كما يشهد عليها «الطوبوس» topos.. هى «أنا» تبنى قلعتها خارج الخرائط الكاذبة للحركات الاستعمارية.
الإجابة الأكثر تأنٍ ستوقفنا لكى نتأمل ثنائية غير «ديكارتية» يعوزها النور والتنوير: جغرفيا الاستيهام/جغرافيا الجدود.
لعل أعلام النهضة لم يكونوا مستعدين بعد لإلحاق العقل بمكان واضح يسمى «arcem meum»... قلعة أفكارى، أقول قولى هذا وأنا أستحضر صداقات فولتير وروسو فى أوساط النبلاء، ومستحضرا العلاقات الحميمية بين ديدرو وكاثرين الثانية ملكة روسيا، والعيش الباذخ لدالمبير وروسو، وكذلك الحميمية المريبة بين فولتير وفريدريش الثانى ملك بروسيا.
هل كان هؤلاء مستعدين لمنح زنوج أفريقيا وبحار الجنوب الحق فى دخول قلعتهم؟
أشك فى ذلك... حتى «هيجل» الذى سياتى بعدهم بعقود قليلة، لن يخرج من ثنائية «السيد» و«العبد»... ثنائية سينتظر الفلاسفة جميعهم كارل ماركس كى يخلصها من السمت الملكى المستحوذ على القصور وعلى الحق فى قول «أنا»... أنا ماركس التى تسكن شقق العمال وبيوتهم غير الفاخرة... «أنا» تخلصت من القلعة كى تفكر، تفكر جماعيا حسب شعار ماركس «يا عمال الأرض اتحدوا»... ولكنها تحافظ على فردية الصوت لقول «أنا»... معادلة صعبة ولكنها ممكنة، معادلة وصفها «هيجل» بوصف ما هو «متفرد وغير منعزل»... أنا جماعية تخرج من القلعة إلى الشارع محملة بآليات الاشتغال العقلى... آليات تولد فى القلعة وتنمو خارجها.
لسبب كان يعيه ديكارت جيدا وهو يصر على القلعة الذاتية، يمكنك أن خل موسوعة ديدرو وجماعته وتذرع جوانبها وتتجول عبر طوابقها الكثيرة ثم تستكشف حتى سراديبها المعرفية التى قد لا ينتبه إليها الجميع، ولن تجد الأسماء العربية.
لماذا اختفى العرب من موسوعة عصر الأنوار؟ لم يستبق هؤلاء إلا نصف دزينة من العلماء الضروريين. عمل ممنهج لمحو «الأنا» العربية من التاريخ الفكرى للعالم، هؤلاء العلماء الذين كانوا متنبهين إلى دستور ديكارت قبل الوقت. هذا العقل الذى لا بد له أن يستوطن مكانا ما (مكانا قد يكون الحوار على خشبة مسرح ما فى منتصف الطريق العلوى الذى يفصل ويصل أيضا بين قلعتين) لكى يحقق الحوار. لقد تنبه العرب القدامى إلى أن النظر العقلى يحتاج إلى «منطق»؛ شىء كالدستور الخفى الذى يحكم تصرف سكان قلعة ديكارت، الفارابى يسمى هذا الدستور «معيار العقل»، فيما يسميه ابن سينا «بالعلم الآلى»، وهو فى عرف الغزالى «بمعيار العلم» فيما عبر عنه السهرودى بـ «ضابط الفكر»، وسماه الشيرازى باسم «القسطاس مرة وبالميزان مرة ثانية».
لن نجد لكل هذا بيانا فى موسوعة العالم الذى كان قد بدأ يكذب على الخرائط، وكان قد بدأ يحضر المفكرين لدخول مكاتب عملهم. إذ سيبشر إيمانويل كامدنط بالفيلسوف الذى هو موظف حكومى يعمل فى جامعة حكومية وتدفع له الدولة راتبا لقاء عمل الفكر هذا... لتصبح قلعة ديكارت مكانا موبوءا، حسب تعبير شوبنهاور وتلميذه العبقرى نيتشه.
المفكر الجامعى يسكن قلعة غير بريئة، هو لن يقف لإعادة النظر حسب ميكانيزمات المفكرين العرب التى تؤدى إلى «الحق» بل سيكتفى بقول العقل وقتل المعيار. بالإعلان عن «أنا» وإدراج كل «الأنوات» فى أنا ديكارت: أوروبية، بيضاء، قوية، متكلمة، كاتبة، مهيمنة، مستعمرة، ممثلة لذاتها وللعالم المحيط بها الذى تسارع إلى اختزاله.
سيعترف القرن العشرون بعسر كبير بأن المكان أكثر سيطرة على الفلسفة من الزمن، فبعدما كنا نقول فلسفة «هيلينستية» أو فلسفة «إغريقية» فى محاولات واعية أو غير واعية لمحو أثر المكان على الفكر؛ وذلك لفائدة عامل غير «عامل» هو الزمن، أصبحنا نقول فلسفة ألمانية ثم فلسفة قارية أو فلسفة مشرقية أو فلسفة الشرق الأقصى...الخ الخ
إن مسار مفكر فذ ممن عرفهم القرن العشرون، وإن كان أثره قد فتر قليلا، حاله حال كثير من الفلاسفة الهامين، وأقصد ألدوس هكسلى، الذى عكفت مطولا على أعماله يظل مسارا جديرا بالتنبه، فقد انتقل من المادية الوضعية «العلمية» إلى نوع من الباطنية الحديثة التى تريد استنطاق الحكمة التى تترسب عبر الأجيال متحدية الزمن ومغيرة وجهها طورا بعد طور... فلسفة صالحة لكل القلاع لأنها «حقيقية»، لا تعجزها الأماكن ولا الأزمنة، وهو موضوع كتابه الهام «الفلسفة الخالدة» « the perennial philosophy »... وكأننا بمسار الحقيقة يقفز على هيمنة العقل الديكارتى ليصل المسار اللطيف الخفى لعمل الفكر على طريقة «هايديغير» القائل بأن الحقيقة تترسب من صلب الحقائق، وأن صرخة أرخميدس «يوريكا» هى صرخة سيرورة لا صرخة حادثة نابية، أو حدث استثنائى يسكن لحظة منفلتة من الزمن، أو مكانا استثنائيا فريدا (تراها قلعة أرخميدس التى لم يخلق مثلها فى البلاد؟).
زبدة القول
قلعة هايديغير هى الأرض كلها، لا أوروبا والشىء الغريب المكنى «الغرب» فقط، فالحقيقة نسيج بشرى؛ تكتسى الطابع المركب، والطابع المتراتب الخفى والطابع الحى المتغير، لذلك لا يمكن الوصل إليها إلا بعدما نعى بأن تكشف ما هو حقيقى لا يكون ممكنا إلا إذا كان من صلب الحقائق المتراكمة: الحقيقة مسار وليست كيانا ثابتا... وتحيلنا بذلك الأليثيا alithéa البارمينيدية التى صقلها هايديغير من جديد فى ظل مقولة التكشف le dévoilement التدريجى للأشياء وللحقائق على ما للفعل «أتى» من عمق فلسفى فى الآية القرآنية «حتى أتاه اليقين».