الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هرمس الفيلسوف الأعظم وطريق الخلاص

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نظر قلمى إلى الساعة المربوطة فى معصمى ليتأكد أن الساعة الآن هى السابعة وهو موعد انعقاد المحاورة الثالثة بين الشياب والشباب، فأدرك أن حكماء الفراعين، الذين تفرغوا للحضور قد انتظموا فى أماكنهم، بينما الشباب لم يحضر منهم أحد وإن كانت أصواتهم المحتدة تنبىء أنهم ليسوا ببعيد عن مكان اللقاء، وكان تصاولهم حول واقعات الجلسة الماضية، إذ كان معظمهم مستنكرًا الردود والتعليقات التى جاءت على ألسنة رفاقهم. فقد ذهب جل المعترضين إلى أنهم يؤمنون بالحرية، لكن فى الوقت نفسه لا يوافقون على عقوق الأبوين أو الإباحية أو الإقبال على تعاطى المخدرات والمسكرات، بيد أن الوجوديين منهم والماركسيين والفوضويين والماديين نزعوا إلى النقيض من ذلك، إذ ذهبوا إلى أن طاعة الوالدين جزاء عادل مقابل رعايتهم والإنفاق عليهم، أما الإباحية التى يطلقون عليها (زنا) فهى مرتبطة بالمنحى الإيمانى العقدي، وليس لها أدنى ضرر على المجتمعات المفتوحة، وقد أثبتت التجربة أن العلاقات الزوجية مكلفة وفاشلة ومملة وتصحبها دوما الخيانة من الطرفين، أما المسكرات والمخدرات فهى طوق النجاة من الملل واليأس والقلق والحيرة والكآبة والحزن وغير ذلك من متاعب هذا المجتمع الذى لا سبيل لإصلاحه أو الانفكاك منه وعوائده ومعتقداته الرجعية. 
وبعد شجار ساده الغضب والعنف انصرف بعضهم، أما البعض الآخر فقد رغب فى إكمال المحاورات، وتدافعوا إلى أن وصلوا إلى مكانهم حيث حلقة النقاش. 
وها هو قلمى يأذن لى بالكتابة، وقف محفل الشياب الذى يضم أكابر حكماء مصر إجلالًا واحترامًا لأعظم الحكماء هرمس (نحو ٢٣٤٥ ق.م) الذى جاء مشكورًا ليتحاور مع أحفاده من شبيبة مصر، فبادر الحديث بقوله «أتذكر أنى جلست يوما مع ابنى (تات) ناصحًا، واستهللت حديثى معه بحثه على التحلى بالورع وخشية الإله، وذلك بروح المحب الذى لا ينتظر من محبوبه نفعًا أو يداريه اتقاء لغضبه الذى لا ينجم عنه سوى المذلة والخسران وشدة العقاب. 
وهل هناك أجمل من الحب ليصبح دستورًا للحياة، فالتناغم لا يتحقق فى الوجود وبين الكائنات إلا به، كما أن الحكمة والحقيقة لا يمكنها أن تسكن النفس الطاهرة إلا بالعشق الذى يحيا بدوره إلا فى عالم يسوده السلام والوئام بين كل الخلائق. كما أن بوابات الخير لا تفتح إلا على يد ذلك الشجاع الذى حارب بسيف الإيمان كل جيوش الشر التى تسللت إلى قلبه، ثم تعطر بزيت العفة والفضيلة ودأب على الاغتسال فى نهر الغفران والتسامح، ثم خرج سعيدًا ومبتهجًا لكثرة عطاياه وكل المعوزين والضعفاء والبائسين. 
وتهكم أحد الشبيبة على هرمس، قائلًا: إنك تذكرنى أيها الحكيم بحلقات الصوفية والدراويش تقول حبا وورعا وتسامحا، ولم تشر إلى هوية الصانع، اسمع أيها العظيم: إن هذه العملات أو إن شئت قل هذه القيم البالية لا يتداولها الناس الآن، وأضحى عوضًا عنها الاجتراء والعنف والإرهاب والبغض والكراهية والظلم والحرب، وهى تشكل فى مجموعها ثروات السادة الذين يمتلكونها ويوزعونها تبعًا لمصالحهم وأهوائهم ضد كل الضعفاء ونحن بالتأكيد منهم، فالحب بات بيننا شهوة، والورع والتقوى والتدين أمست جلابيب ولحى ونقاب ومسبحة ومبخرة أو إن شئت قل ملابس تستر كل أشكال الغلظة والحقد والسفالة والطمع، فلوثت تلك القيم وبات الدين يحتاج لمن يحسن قراءته ويفطن إلى إشارات وإلهامات خطابة، لكن هيهات فنحن مغيبون. 
فرد عليه هرمس، قائلًا: دعنى أذكرك بما قلته لولدى (تات) عندما سألنى عن علة تفشى الشرور بين الناس، أجل قلت له: إن العلماء هم الأتقياء وذلك لأمرين: أولهما قدرتهم على إدراك الحكمة الكونية والحقيقة الإلهية التى تمكنهم من مجاهدة الشهوات ومحاربة الرذائل التى دائمًا يقوم البدن بالترغيب فيها، أما الأمر الثانى فيرجع إلى رسالتهم التنويرية الرامية إلى تبصير الناس وهدايتهم إلى الطريق الأرشد، ومن المؤسف يا بنى أن زمانكم قد خلا من كثرة هؤلاء، فعم الفساد وضاعت القيم فأصبحتم تعانون من إفتاءات السفلة والمجترئين، عشاق الرذيلة وزبانية الشر، ومن المخجل أن هذه العصبة لم تتسلل بين العوام فحسب بل اندست بين بعض المتعلمين أيضا فهجروا العلم واتبعوا الأسافل متخذين منهم أئمة العصر. 
واعلم يا بنى إذا اجتمعت عصابات الشر على خداعك فلا تجبن ولا تيأس ولا ترتاب، لأن الحكيم باقٍ فى أعلى الأعالى لا يراه ولا يدرك وجوده جاحدو النعمة ومنكرو الحق، ومن ثم فعليك بتصفية السريرة فهى مرآتك الحقيقية وأم ضميرك، واجعل العقل مصباحك والخير سبيلك والعدل والاستقامة مقامك، والبر العطاء فراشك ولا تحسب أن نصحى لك من سبيل العظة بل هو بعض الحقيقة التى لا يمتلكها إلا المحبوب الأوحد والمعشوق الأكبر ومن كان البدء بيده وإليه المآل. 
أحد الشبان: لا سبيل لنا للانتقال من هذه الحضرة الصوفية (فكك أيها الحكيم) وأخبرني: لماذا كتب الإله على الأتقياء الصابرين الفقر والمذلة والعبودية والجهل والمرض وأعطى نقيض ذلك كله لمن كفروا به وظلموا استبدوا وأجرموا وحللوا وحرموا تبعًا لأهوائهم، وأعلى من شأن المضللين ومكن الطغاة من التنكيل بالأحرار والمصلحين؟ وقف هرمس، وقال: ذكرتنى أيها الفتى بسؤال ولدى (تات) «لماذا لم يقسم الله الذكاء والحكمة على البشر بالتساوى والعدل؟» فأجبته: إن الإله قد وضع الحكمة والذكاء والفطنة ورجاحة العقل فى جرة متينة البنيان لا يقوى على ارتشاف ما تحويه إلا المحبون المخلصون والورّع الصادقون، وابحث فى تاريخك والسالف من أيامك فسوف تدرك أنك ذات يوم كنت فى مقام المرتوين من تلك الجرة، ويوم زهدتَ فيها وتوليت وعبثت ولهيت بعشق ما هو أدنى وأخس فضللت الطريق إلى عنق الجرة، فأغلق الباب أمامك وعجزتَ عن صعود درج العلم فوقعت إلى ما أنت فيه الآن، فالعيب ليس فى الجرة ولا فى صانعها ولا فى القدر، بل هو فعلك الحر وإرادتك العمياء. ألم أقل سلفًا أن فى الحب خلاصك، أيها الشاب: هل تعتقد أن الإله يحب الكسالى وغير المتقنين فى العمل، والغشاشين فى مصنوعاتهم ومزروعاتهم والمهملين فى تربية أبنائهم، والطامعين فيما ليس لهم والمخادعين والكذابين؟ لقد وهب الإله الحكمة لأجدادك، لأنهم كانوا مخلصين فى حبه وصادقين فى عشقه، فهل أنتم على شاكلتهم؟
أما شكواك من سيادة الشر وثراء الجبابرة فهذا جزاء عادل لانصرافك عن طريق فوهة الجرة، أى أن الإله سخر عصبة الأشرار لإذلالك لتعلم أنك تسير فى الدروب المهلكة، لكن غباءك صور لك أن السير فى ركابهم هو الطريق الصحيح، لكنك إذا أمعنت النظر فسوف تفطن أنه على الرغم من تجديف أولئك إلا أنهم استطاعوا بحبهم للحكمة وإخلاصهم للعلم والعمل التسلل إلى الجرة، وتمكنوا من ارتشاف بعض ما فيها حتى إذا استملحوه ازدادوا فى قهركم أيها الشباب حتى لا تفيقوا من لهوكم، وتعودوا ثانية إلى ارتشاف ما اكتشفوه بعرفانهم. 
وللحديث عن حوار الشباب والشياب بقية