السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

«الفنى» تعليم الترسو فى مصر.. 1.5 مليون طالب يدرسون بالمدارس الفنية دون إمكانيات أو خطة تشغيل مستقبلية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مليون ونصف المليون طالب يدرسون بالمدارس الفنية دون إمكانيات أو خطة تشغيل مستقبلية، الخريجون مطاردون يصفون بـ«الفشلة»، فيما تقف الحكومة على الجانب الآخر مكتفية بالصمت والمشاهدة دون أن تُصحح من سُمعة التعليم الصناعى، الذى يحظى باهتمام بالغ فى الخارج، لدرجة أن %80 من التعليم فى ألمانيا قائم على التعليم الفنى، ويتقاضى خريجه أجرًا عاليًا يقترب وربما يساوى أجر الحاصل على شهادة ودرجة الدكتوراه.
هُنا فى مصر وضع خريج التعليم الفنى ما زال تحت الدراسة ومهمش، على عكس الخارج تمت دراسة الموقف والأوضاع منذ زمن، ويعتمد على خريج المدارس الفنية فى تنمية البلاد ونهضتها الصناعية عبر خطط مدروسة وتنموية.
«البوابة» تناقش كيف كان التعليم الصناعى فى مصر، وكيف صار بعد استمرار أزماته فى ظل عدم وجود مخصصات مالية للتدريب وغياب الشراكة مع المصانع ورجال الأعمال، ويسأل الملف هذا السؤال: «أين خطة وزارة التربية والتعليم لتطوير التعليم الفنى وأطروحاتها فى مواجهة أزمات نقص الموارد المالية وضعف الميزانية المُخصصة له؟».


طلاب دون رعاية.. ومدرسون بلا أدوات 
رغم محاولات الحكومة العديدة لتطوير التعليم الفنى، باعتباره ترسًا مهمًا فى عجلة التنمية والنهوض بالبلاد، غير أن الأزمات ما زالت قائمة. وكشفت أحدث دراسات المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية حول قضايا التعليم فى مصر، والتى أجريت عام ٢٠١٧ على ٢٠٣٥ طالبًا وطالبة فى ١٧ مدرسة للتعليم الفنى الصناعى بالقاهرة الكبرى، أن ٤٢.٨٪ من الطلاب يؤكدون أنهم سيواجهون تدنى التقدير المجتمعى بعد التخرج، و١٧.٦٪ يكثرون الغياب من المدرسة، بسبب رؤيتهم أن التعليم الفنى ليس له مستقبل مضمون.
وأكدت الدراسة، أن ٢٥.٢٪ من أفراد العينة، ذكروا أن اختيارهم للتعليم الفنى بمثابة وسيلة للهروب من الثانوية العامة، كما كشفت أيضًا أن عدد الطلاب الملتحقين بالتعليم الفنى بمصر يصل إلى مليون و٤٣٠ ألف طالب، منهم ٧٩٠ ألفًا و٢٧٧ طالبًا بالتعليم الصناعي، مما يعنى أن الإقبال على التعليم الفنى فى مصر فى تزايد مستمر فى السنوات الأخيرة.

ضعف الميزانية
قال حسين ممدوح، مدرس بمدرسة القاهرة الفنية المعمارية بدار السلام، إن التعليم الفنى يعانى من نقص وضعف الإمكانيات اللازمة لتدريب الطلاب على المهن الحرفية المرتبطة بمناهج دراستهم، موضحًا أن هناك نقصًا فى التوجيه والمتابعة المستمرة على العمل الفنى للطلاب، فضلًا عن ضعف الميزانية المخصصة للتعليم الفني. وتابع، أن غياب الإشراف المستمر والاهتمام من قبل وزارة التربية والتعليم سببًا رئيسيًا فى تدهور الأحوال فى المدارس الخاصة بالتعليم الفني، مشيرًا إلى أن هذا الإهمال أدى إلى غياب الطلاب وعدم الالتزام بالحضور، واللجوء نهاية العام الدراسى إلى استمارة إعادة القيد بعد أن يتم فصله من المدرسة، للدخول إلى الامتحانات، فضلًا عن عدم قيام بعض المدرسين بواجباتهم كما يجب أن تكون.
وأضاف، أن إمكانيات المدرسة لا تسمح بتدريب الطلاب على المهن والحرف المختلفة، قائلًا: «الأجهزة الموجودة فى المدرسة أغلبها لا يصلح للاستخدام، والوزارة ليست مهتمة بصيانتها أو استبدالها لتدريب الطلاب عليها»، لافتًا إلى أن معظم طلاب التعليم الفنى لا يمتلكون حرفة أو مهنة يستطيعون العمل بها بعد تخرجهم من المدرسة، نتيجة عدم ارتباط المناهج ببعضها البعض، فضلًا عن عدم وجود التدريب اللازم، لتأهيل الطلاب لسوق العمل بعد التخرج. وأشار إلى أن معظم مدارس التعليم الفنى ترتفع بها نسبة الغياب، لمعرفة وتأكد الطلاب من عدم استفادتهم من الدراسة فى الحياة العملية، مما يدفعهم للغياب عن المدرسة للبحث عن عمل مفيد يستطيع من خلاله إثبات نفسه فى المجال الذى يريده.

خبراء: انعدام فرص العمل أفقد التعليم الفنى قيمته
فى الوقت الذى يعانى فيه خريجو المدارس والمعاهد الفنية توحش البطالة، يؤكد تقرير صادر مؤخرًا عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، أن إجمالى عدد العاملين الأجانب فى القطاع الحكومى والقطاع العام، العام الماضى ١١٣٢ أجنبيًا (منهم ١٠٢٠ ذكور بنسبة ٩٠.١٪، ١١٢ إناث بنسبة ٩.٩٪)، مقابل ٨٨٩ أجنبيًا عام ٢٠١٦ بنسبة زيادة قدرها ٢٧.٣٪.
وأضاف التقرير، أن العاملين الأجانب بالقطاع العام/ الأعمال العام يمثلون العدد الأكبر، حيث بلغ عددهم ٥٠٤ أجانب، بنسبة ٤٤.٥ ٪ معظمهم يعملـون بالشركة القابضة للغازات الطبيعية، تلاهم العـاملون الأجانب بالهيئات العامة بعدد ٥٠١ أجنبى بنسبة ٤٤.٣٪ معظمهم يعملون فى الهيئة المصرية العامة للبترول واتحاد الإذاعة والتليفزيون. ووصفت الدكتورة بسنت فهمي، الخبيرة الاقتصادية وعضو لجنة الشئون الاقتصادية بمجلس النواب، نسبة العمالة الأجنبية فى مصر بـ«الكارثية»، ورأت أن إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الأجنبية الموجودة بكثرة فى مصر أصبح واجبا وطنيا تحتمه الظروف الراهنة التى تمر بها مصر، والتى تتطلب توفير المزيد من الوظائف للمصريين لمواجهة الارتفاع الكبير فى معدلات البطالة.
وأضافت، أن العمالة الأجنبية ليست أقوى من العمالة المصرية فى شيء، بل إنه من المتعارف عليه أن العمالة المصرية تستطيع العمل تحت الضغوط وفى الظروف المختلفة.
بين الحين والآخر تطفو على السطح تصريحات رنانة حول خطط تطوير التعليم الفني، ومع تعاقب وزراء التعليم، وخلال الفترة من ٢٠١٤ وحتى اليوم، أعلن الوزراء المتلاحقون عن خطط لا حصر لها لتطوير التعليم الفني، أن هذه الخطط لم يظهر لها واقع ملموس فى المجتمع، والنتيجة استمرار إهمال للتعليم الفني.
فى عام ٢٠١٤، كان التعليم الفنى على موعد مع تغير كبير، بعدما وضع وزير التعليم وقتها محمود أبو النصر، مستعينا بمجموعة من أفضل خبراء التعليم الفنى، الاستراتيجية المصرية للنهوض بالتعليم الفني ٢٠١٤/٢٠٣٠، والتى اعتمدت على ربط التعليم الفنى بالصناعة وتمهيد الطرق للتعليم المزدوج، وهى الاستراتيجية التى لاقت إشادة من قبل العديد من المهتمين بهذا القطاع، إلا أن هذه الاستراتيجية تعطلت مع التغييرات الوزارية المتلاحقة.

هنا يرى الدكتور كمال مغيث، الخبير فى المركز القومى للبحوث التربوية، أن التعليم الفنى ركيزة أساسية للنهضة فى الدول المتقدمة، لأنه يوفر العمالة الماهرة المدربة فى مختلف مجالات العمل. ويؤكد أن التعليم الفنى عانى كثيرا الإهمال وغياب خطط التطوير نتيجة غياب خطة للتنمية الشاملة فى الزراعة والصناعة والتجارة، والتى تؤدى إلى نتيجة حتمية، وهى أن طلاب التعليم الفنى لا يجدون مجالات عمل، وبالتالى يفقد التعليم أهميته وهويته.
ويضيف مغيث: «فى السابق كان لدينا تعليم فنى قوي، وكان الطلاب لهم أهمية كبرى ويشعرون بأهميتهم فى المجتمع، لأن مصر كانت تمتلك خطة واضحة للتنمية الشاملة، ومن ركائزها الاهتمام بالتعليم الفنى لتوفير أيدى عاملة ماهرة تشكل مقوما بشريا هائلا للمصانع والحرف المختلفة، وكان الطالب على يقين أنه إذا أجاد تعليمه الفنى لديه فرصة عمل، على عكس ما هو موجود الآن، فطلاب التعليم الفنى اقتصر طموحهم على التخرج للعمل كسائق «توك توك»، أو العمل فى أحد محلات البقالة أو مهن التوصيل للمنازل».
ويلفت الخبير إلى أن الدولة تنظر إلى التعليم الفنى على أنه تعليم للفقراء، فالطلاب الذين يرتادون المدارس الفنية فى الوقت الحالي، هم الطبقة الأقل من المتوسطة، وأفقر طبقات المجتمع والأسر التى تعجز عن إدخال أبنائها للجامعة، أو الدخول فى دوامة الدروس الخصوصية ومصاريفها الباهظة، ومن هنا يتم الاهتمام بقطاعات مثل الثانوية العامة، ويغيب الحديث عن تطوير التعليم الفني، فما ينشر عن الثانوية العامة هو أضعاف ما ينشر عن أى قطاع تعليمى آخر، كما أن التعليم الفنى مكلف على الدولة ويحتاج إلى أدوات ومعامل، ومن هنا جرى إهماله وفقد هويته وهدفه ومهاراته وأصبح «تعليم بلا تعليم».
ويقول «مغيث» إن السبيل الأفضل للارتقاء بهذا القطاع التعليمي، هو إنشاء مدرسة فى كل مصنع كبير أو سلسلة مصانع متميزة فى أحد التخصصات، وبناء مدرسة فنية ثانوية بالشراكة مع وزارة التعليم على أن تهتم وزارة التعليم بالمكون الثقافى والعلمي، وأن يهتم المصنع بالمكون الفني، ومن هنا يقضى الطلاب وقتهم ما بين المدرسة والمصنع والتنفيذ العملى مقابل مكافآت بسيطة فى البداية، وبعد أن يجتازوا مرحلة التعليم يكونون أيدى عاملة ماهرة تستطيع أن تجد لنفسها فرصة عمل تؤمن مستقبلها، مشددا على أن مصر تفتقد الإرادة السياسية التى تريد الانعطاف لتطوير هذا القطاع من التعليم.


أما الدكتور طارق نور الدين، معاون وزير التربية والتعليم الأسبق، فيقول إن التعليم الفنى هو المحور الأساسى للتنمية، ولكن مشكلات التعليم الفنى بدأت عندما تغيرت ثقافة الشعب الذى اعتبر التعليم الفنى تعليم للطلبة دون المستوى، وبدأت التفرقة على أساس أن طلاب الثانوية العامة هم الأكثر كفاءة، فيما اعتبروا التعليم الفنى دون المستوى المطلوب. ويوضح أن الخطوة الأولى لتطوير التعليم الفنى بدأها الدكتور محمود أبو النصر وزير التعليم الأسبق، عندما دعم التعليم الفنى بإصدار استراتيجية التطوير ودعم التعليم المزدوج عبر مصنع فى المدرسة ومدرسة فى المصنع»، من أجل تعليم طلاب المدارس الفنية فنون التعليم وتخصصاته على أرض الواقع وهذه كانت البداية، لأن الطالب لا بد أن يطبق ما يدرسه، وكانت الخطة تستلزم دعم رجال الأعمال أصحاب المصانع الكبرى، لأن الدولة لا يمكنها أن تتحمل كل تكاليف التعليم الفنى الباهظة.

خريج: «كنا بنروح المدرسة نلعب.. والورش محظور دخولها خوفا على العدد والماكينات» 
لماذا يتجاهل سوق العمل خريج المدارس الفنية؟ سؤال صريح ومباشر، والإجابة أكثر مباشرة: إن مستوى خريج المدارس الفنية لا يلائم سوق العمل، والسبب جاء على لسان الخريجين، المدرسة كانت مجرد ساحة للعب والهزار، وأحيانا حلقات دراسية النظرية دون ورش وإمكانيات تطبيقية، والنتيجة معظم الخريجين خارج نطاق الخدمة. 
بولس مينا، يبلغ من العمر ٣٨ عاما، ويمتهن مهنة النقاشة، قال إنه تعلم النقاشة منذ كان عمره ١٥ عاما، كان يذهب للعمل مع أصدقائه فى المعمار، ولكن أحب مهنة النقاش وتعلمها فى وقت قصير وأتقنها، وهو فى نفس الوقت كان يدرس فى مدرسة الثانوية الصناعية قسم تبريد وتكييف، ولكن لم يستطع تعلم شيء من المدرسة؛ لأن المدرسة كانت إمكانياتها ضعيفة، وقال «كنا بنروح نقعد فى المدرسة من غير ما نعمل حاجة، وعمرى ما دخلت الورشة، عشان المدرسين كانوا بيخافوا على العدة».
ويشير «مينا»، إلى أن ورشة المدرسة كانت مخصصة للمدرسين، ونحن الطلبة ممنوعين من دخولها، «نحن كطلبة كنا مرتاحين فى كده، كنا نروح نقعد نهزر ونلعب، بس ما كناش نعرف أن مهنة التبريد والتكييف كانت هتأكلنا دهب لو تعلمناها».
وقال عاصم محمود، ويعمل نجار مسلح، والحاصل على دبلوم فنى صنايع قسم كهرباء، إن المدرسة لم تعلمه شيئا، ولم يستطع إتقان مهنة الكهرباء فى المدرسة، وتعلم مهنة النجارة بعد تخرجه فى المدرسة، «خدت الشهادة عشان آخد سنتين بس فى الجيش، ولولا كده ما كنتش رحت عشان ما تعلمتش حاجة منها، والفائدة الوحيدة اللى أخدتها من المدرسة هى الشهادة».
وقال ممدوح، من محافظة المنيا، والذى يعمل فى سوبر ماركت والحاصل على دبلوم فنى زراعة، إن المدرسة أصبحت مقصدا للحصول على الشهادة فقط، للانتفاع منها، إما فى تخفيض مدة التجنيد، وإما فى السفر للخارج، لكن الذهاب للمدرسة لتعلم مهنة، هذا مستحيل.
«أنا عمرى ما شفت واحد خريج دبلوم طلع من المدرسة متعلم مهنة، كله بيدخل ويخرج من غير ما يتعلم حاجة وحدة». هنا يعلق الدكتور عبدالحفيظ طايل، رئيس مركز «الحق فى التعليم»، قائلا: «التعليم الفنى يعتبر تعليم أبناء الفقراء فى مصر، وأن الحكومة والمجتمع ينظران للتعليم الفنى على أنه تعليم الدرجة الثانية، والدليل على ذلك إذا نظرنا للتصريحات الخاصة بوزير التربية والتعليم، ستجد أن نسبة التصريحات الخاصة عن التعليم الفني، نسبة لا تتخطى واحد بالمئة رغم أهمية التعليم الفني». وأوضح طايل، أن معنى كل هذا هو أن طلبة المدارس الفنية الذين يتخرجون إلى سوق العمل يجدون أن المعدات والماكينات التى مطالبين العمل عليها لا تتطابق مع تلك التى تعلموا عليها بالمدرسة.