الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

"زيارة المقابر".. لحن الأعياد لدى المصريين.. سكان القبور: "شخلل جيبك تعدي".. والزوار: "لا حيلة لنا"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتلهف بائعو الورود البيضاء وساكنو المقابر، اقتراب مواسم الأعياد، وبخاصة عيد الأضحى «على أحر من الجمر» نظرا لعطايا الزوار من أموال، يصطفون فى طوابير انتظار لقدوم الزائرين، وما أن يتراءى أحدهم، يسرعون نحوه ويستبقون بعضهم البعض فى الوصول إليه لتبدأ الدورة المكوكية للتسول بكل أشكاله، يكررون جمل بعينها «معانا الورد الصابح، عيد على حبابيبك بوردتين، الوردة بـ ٥ جنيه» لتجد نفسك أمام إلحاحهم المتواصل تعكف على شرائه خوفا من تربصهم الزائد عن الحد، والذى يصل إلى منعك من الوصول إلى ضريح موتاك.

تعتقد لوهلة أنك بمجرد شرائك للزهور سيتركونك وشأنك، بل سيطاردونك لمنحهم مبلغا ماليا آخر يتراوح ما بين ٢ و١٠ جنيهات، وربما يطلبون ساندويتشات فتة باللحم نظرا لحرص غالبية الزوار على توزيعها «رحمة على الميت» ليمنحونك رخصة الدخول للزيارة. 
أمام مقابر «ترب الغفير» يصطف بائعو الورود، وبمجرد وصولك إلى طريق المقابر، تستقبلك فتاة فى الرابعة عشرة من عمرها تدعى «منة» بجسد نحيل، ملابس مهلهلة، حافية القدمين، تحمل «سبت غسيل» وضعت بداخله عددا من الزهور، ويجاورها ثلاثة من إخوتها يصغرونها سنا. 
قالت «منة»، لـ«البوابة»، «العيد وش السعد وبيفك ضيقتنا»، نظرا لمنح الزائرين للمقابر «عيديات»، إضافة إلى اللحوم، واصفة وضعها ووضع ساكنى المقابر «يصعب على الكافر»، فضلا عن تألمها من نظرات بعض الزوار لسكان المقابر باعتبارهم أحقر ناس و«بترملنا ملاليم علشان تسد بوقنا»، مؤكدة أن أبسط حقوقنا تتمثل بالعطف على أحوالنا وسد رمقنا خاصة كوننا «أفقر خلق الله».. 


تتجه صوب مدخل المقابر تشاهد رجلا وزوجته يملآن جرادل للمياه من صنبور متهالك، ومياه داكنة لغرض الشرب، وما أن تحاورهم حول أجواء الأعياد، يؤكدون أن زيارة الموتى طوال العام تكاد تكون معدومة باستثناء الأعياد «بالكتير أوى بيزوروهم فى السنة مرتين». 
متابعين، حرصهم الشديد على السهر ليلة العيد، وبمجرد انتهاء صلاة العيد يهرولون نحو أحواش مقابرهم دون حتى غسيل وجوههم لبيع الزهور، ومطاردة الزوار لطلب عيديات، مؤكدين «أيوه بنرخم عليهم ما هما شايفين حالتنا احنا «بنكح تراب»».
منوهين، للمكوث بداخل أحد الأحواش منذ ٤٥ عاما تبرع بها أحد أهالى المتوفى وقتئذ ومنحهم كفالة تضامن بمبلغ ٣٢٣ جنيها لا تكفى حتى لشراء «مياه وملح» طوال الشهر، لديهم ثلاثة من الأولاد اثنان منهم من ذوى الاحتياجات الخاصة، أما الأخير فيعمل «صنايعى» ويعاونهم بنفقات المعيشة...
ويؤكد عم عباس «٧٠ عاما»، أن «العيشة سواد» فى المقابر، وبخاصة بعد منتصف الليل، وانتشار تجار المخدرات، واقتحام مقابر الموتى وسرقة أعضائهم مستغلين ضعفنا، قلة حيلتنا، خوفنا من تقديم بلاغات إزاءهم.


ويتابع «عباس»، الذى يعيش بمفرده داخل حوش مقبرة زوجته ونجله واللذين وافتهما المنية منذ عشرة أعوام مضت بمعاش ٢٥٠ جنيها، وينتظر الأعياد لبيع الزهور بتكلفة ٥ جنيهات للوردة الواحدة، معتبرًا تلك التكلفة «فكة مواصلات»، بالنسبة للمصاريف الكبيرة التى ينفقونها على مستلزمات المأكل، نفقات حياتهم المعيشية.
عادة فرعونية 
قالت د. سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إن زيارة المقابر تعد طابعا فرعونيا عتيقا توارثه الأجيال منذ زمن سحيق، وجاءت الأديان لتؤكده لما يتضمنه من صلة للأرحام ونشر لروح الألفة، فضلا عن كون المصرى القديم متمسكًا بعاداته وأعرافه الأصيلة، إحياء لروح البهجة بزيارة موتاهم للتأكيد أن فناء الجسد تحت التراب لا يعنى نسيان الروح.
واستنكرت «خضر»، تناسى هذه التعاليم من الجيل الحالى لأسباب تتعلق بالتنشئة الاجتماعية، والذى تلاشى دورها بتوجيه أبنائهم حتى لمحادثة أقاربهم بالهواتف، معللين ذلك بالانشغال بدائرة الحياة، وصولا إلى تكاسل زيارة موتاهم، وترك ذويهم لهذه المهام لنحصد بجدارة أعلى نسبة للفوضى العارمة والتخاذل بالتنشئة الاجتماعية للأبناء، ناهيك عن غياب دور المؤسسات التعليمية، مطالبة مؤسسة الأزهر باستعادة دوره المحورى التنويرى للشباب بكل الأمور الدنيوية.


ويضيف د. شوقى عبداللطيف، وكيل أول وزارة الأوقاف سابقا، أن زيارة المقابر تتضمن حكمة ربانية وإنسانية لتذكر الإنسان بنهايته، وموعظة بأن الدنيا هى خطوة لحصد الحسنات لنعيم الآخرة، مؤكدا أن رسولنا الكريم «محمد» عليه أفضل الصلوات والتسليم، رفض فى البداية مبدأ زيارة النساء للمقابر تجنبا للعويل والصراخ لعدم إيذاء الموتى، ولكنه وافق بعد ذلك على أن يتبعن قواعد هدوء الزيارة، قراءة القرآن، تجنب ما يؤذى الميت، لافتا إلى أنه لا يحبذ زيارة المقابر بالأعياد، نظرا لكونها أيام بهجة وسعادة وزيارات عائلية وتأجيل الزيارة لبعد العيد. 
ويتابع د. جمال فرويز، أستاذ الطب النفسى، بجامعة القاهرة، أن زيارة المقابر خاصة بالأعياد تعد ثقافة مصرية أصيلة، لافتا إلى أن السيدات تتصدر أولوياتها زيارة المقابر بالتزامن مع مواسم الأعياد، مقارنة بالرجال نظرا لميلها للعاطفة والمشاعر الجياشة وذرف الدموع والعويل، وارتباطهن الوثيق بمن فقدن، وبخاصة والدتهن لاعتبارها كاتمة أسرارهن ومكانتها شديدة الصلة بابنتها التى لا يضاهيها فيها أصدقاء، أقارب، وغيرهم.
واصفا لجوء البعض للتحدث للموتى وسرد تفاصيل حياتهم وأزماتهم العالقة واتباع أسلوب «الفضفضة» مع ذويهم يعد نوعا من الحرمان العاطفى لفقدان من يحادثونه ويطلبون مشورته، وفشل الأشخاص الأحياء، المحيطين بـ«سد فراغ» الغائبين، لافتا إلى هذه الحالة يستلزمها علاج نفسى لخروجهم من أزماتهم النفس.