الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نصائح الحكيم آنى ومروق الشباب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اجتمع المتحاورون قبيل الجلسة الثانية فى حلقتين: الشيّاب الحكماء، وشبيبة النقاد، وذلك لمراجعة واقعات الجلسة الأولى وما جرى فيها. فذهب الحكيم كاجمنى (2345-2333 ق. م) إلى أن لغة التساجل فى المحاورة الأولى اتسمت بالحدة فى الردود وغلب عليها أسلوب الوعظ والتوجيه، الأمر الذى دفع فريق الشبيبة للنفور والتهكم تارة، والتمرد والسفسطة تارة ثانية، وعليه يجب علينا نحن معشر الحكماء العدول عن ذلك وإعطاء فرصة أكبر للشباب ليتمردوا بحرية على وصايانا ونصائحنا، ثم نقوم بدورنا لإيضاح المستغلق وتسهيل المعقد مما نؤمن به من قيم، وأبسط الأمثلة على ذلك حديث بتاح حتب (نحو 2500 ق. م) عن ضرورة احترام الرؤساء وإجلال الكبار وتبجيل القادة وجعله الانصياع لهم من الفضائل وتنبيهه على أن عصيانهم أو الخروج عليهم من أبشع الرذائل.
فالشباب الثائر لا يمكنه إدراك القيم الكامنة فى هذه الحكمة، وذلك لأننا كنا نعتقد أن الرؤساء القادة لا يفعلون ولا ينطقون إلا بإلهام من الإله، فهو الحكيم الأكبر والمعلم الأعظم الذى لم يهب نعمته إلا للعقلاء البررة، أما فى زمانهم فقد أصبحت الرياسة والقيادة فى يد من لا يستحق، بما فى ذلك الآباء الذين لا يقومون بواجب الرعاية والتربية السليمة نحو أبنائهم، وعلى ذلك لا ينبغى علينا الإلحاح على هذه الفضيلة لأنها ليست من القيم الخالدة، فهى نسبية تكتسب قوتها من الواقع المعيش.
وإذا انتقلنا إلى حلقة الشبيبة لنستمع لما كان يدور بينهم لسوف نجد جميعهم يبحث عن حجج لدحض ادعاءات الشيّاب، فذهب أحدهم إلى أن الشيّاب الحكماء لا يريدون التنازل عن منطق الوصايا ولا نظرتهم المتعالية إلينا ومعارفنا ومبرراتنا، وهذا ليس من الحكمة، ونحن على يقين أنهم لا يستطيعون العيش فى الظروف التى نحياها، فهم على أى حال ليسوا برجماتيين (أى واقعيين عمليين)، وعلينا أن نحتكم للواقع فى دفوعنا ونبتعد عن منطق ما ينبغى أن يكون فى حججنا وردودنا عوضا عن منطق ما ينبغى أن يكون الذى طالما حدثونا عنه.
مضت الدقائق ونبه قلمى المتحاورين إلى ضرورة التأهب لاستئناف الحوار، بدأ الحكيم آنى (نحو عام 2280 ق. م) حديثه قائلا: إننى كتبت فى وصاياى لابنى الأكبر العديد من الحكم، جاء بعضها بصيغة الأمر والبعض الآخر فى صورة النهى والمنع، فقد استملح ولدى هذا الأسلوب لأنه كان يعى قدرى ومقدار علمى ومكانتى بين العلماء، وتيقنه من صدق توجيهاتى ونفعها، ومما جاء فيها «إياك أن تغضب أمك أو تنقص من قدرها وحبها وإخلاصك لها فى قلبك، فإنك مهما فعلت من الإحسان إليها، فلم توفى لها حقها فى العطاء الواجب عليك، فتذكر رعايتها لك منذ أن كنت فى أحشائها، ثم محمولا على يديها مسترخيا فى صدرها رضيعا، ثم لاهيا فى كنفها صبيا، ولا تنسى أنها معلمك الأول، وملجأك الآمن، ومؤدبك الأمين، أما إذا فعلت غير ذلك وارتشفت سم العقوق فلن يرضى عنك الإله، وسوف تكون منبوذًا فى قومك ومغتربًا فى وطنك».
فوقف أحد الشباب معترضًا على التعميم قائلاً: وماذا عن الأمهات اللواتى يحملن سفاحًا ويلقين بما حملته بطونهن فى الطرقات بغية الخلاص من الخطيئة أو هربًا من عبء الإعالة؟ وماذا عن الأمهات الخائنات والعابسات والماجنات، تراهن أهلاً للوفاء من الأبناء أو السخط والعقوق؟
اعلم أيها الحكيم أن زمن إيزيس (نحو عام 140 ق. م) قد مضى، وحورس (نحو عام 145 ق. م) لم يجد الرعاية من أمه التى ألقت به فى صناديق القمامة استجابة لشهوة أو لتحقيق رغبة شيطانية. فأجاب الحكيم آنى أن مثال الأم لن يخبو أبدًا وسوف تظل دومًا نموذجًا للحب والعطاء، أما تلك الأمثلة التى أوردتها فهى من كائنات أقرب إلى عالم الحيوان المتوحش منها إلى الإنسان، بل هى أدنى من ذلك وأحط، ففى عالم الحيوان أمثلة رائعة على الأمومة التى نقصدها، كما أن وجود الشواذ لا ينقص من كمال القاعدة.
ثم استأنف الحكيم آنى الحوار: ومن الحكم التى أوردتها أيضًا فى وصاياي: احذر يا ولدى المسكرات وكل ما يغيّب العقل عن وعيه ويحول بين سلوك المرء واستقامته، فلا تتردد على الحانات بغية الترويح عن النفس أو اللهو للتخلص من عذابات الألم واليأس والشقاء، فعواقب السكر لن تفرحك بعد الإفاقة. ومألات سلوكك سوف تلقى بك فى طريقين أشر من بعضهما، أولهما الندم وثانيهما مرارة العقوبة لما اقترفته من معاصى وجرائم وانتهاكات فى حق الناس، ناهيك عن صورتك المحتقرة بين الأسوياء.
وانبرى شاب معترضًا: وعظ ثانية باسم الدين تارة، والعادات والتقاليد تارة أخرى، فما رأيك أيها الحكيم فيمن سكر ولا يؤذى أحدًا، ويلهو دون أن يكون محتقرًا بين الناس، ويفعل ما تشتاق إليه نفسه بمنأى عن سلطة المجتمع الجائرة، وباتفاق مبرم بين الطرف الآخر، وكما أن المخدرات تعيننا على التماس بعض ألوان السعادة والانبساط والسرور، - وهى من الأمور التى نفتقدها فى هذه الحياة الشاغلة بالمنغصات والشقاء والبؤس-، فيجب عليكم أن تدعونا أحرارًا ننعم فى عالم لا ترونه.
الحكيم آني: اعلم يا بنى أنك أول الخاسرين وإن عالمك الذى تنشد هو عالم الضعفاء والمغيبين، فإن من يستملح الرذيلة ليس فى إمكانه أن يعيش فيها دومًا، فسرعان ما يهلكه ألم السير فى ركابها فيهلك بدنه ويغيب عقله ويشعر دوما بالاغتراب فى حياته اللاهية والندم قبيل الرحيل. ولعل جريمة الزنا أفضل الأمثلة المعبرة عن همجية مرتكبيها لأنها تحوى عشرات الآثام، فضلا عن كونها شرًا على المجتمع وعصيانًا للإله، فهل يمكنك أيها المعترض إدراجها ضمن الحريات؟ أجاب أحدهم: لم لا؟ ولاسيما لو كان حدوث الزنا بلا إزعاج لأحد، أليس الزواج عرضًا وقبولًا؟ ولا يقع الوطء إلا به؟ دعونا أيها الشيّاب نمضي، أما العفة والشرف والدنس والرذيلة والعار فهى مصطلحات تصطنعها المجتمعات التقليدية المتخلفة التى تريد أن تبعدنا بقيمها عن لذائذ الحرية التى تسمى عندكم إباحية.
وللحديث عن حكمة الفراعين بقية..