الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمد نور الدين يكتب: سمير أمين.. وأنا

محمد نور الدين
محمد نور الدين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تميز سمير أمين من بين ما تميز به بقدرة عالية على تطوير أفكاره وعدم تجميدها، وعلى تفضيله الاستماع إلى الآخرين على الانفراد بالحديث وتحويل الآخرين إلى مجرد مستمعين أو حواريين.. كان سمير أمين متواضعا للغاية وكثيرا ما اعترض على كلمات المديح وطلب تجاوزها والدخول مباشرة فى الموضوع، وطبيعى ربما لكونه أوروبى التربية لم يكن أبدا حريصا على أن يناديه أحد بلقب دكتور وكثيرا ما كان يطلب أن نناديه باسمه المجرد بدون ألقاب.
مررت بسمير أمين فى عدد من المراحل الهامة فى حياتي.. كان الاحتكاك الأول فى ١٩٧٤ عن طريق البريد والتلكس.. باختصار تقدمت أنا وزميلتى سلوى العنترى للحصول على منحتين دراسيتين فى معهد الأمم المتحدة للتنمية فى داكار الذى كان يديره سمير أمين. تم قبولنا مع آخرين على أساس أن تبدأ الدراسة فى أواخر ديسمبر ١٩٧٤ لنحصل على ما يعادل الماجستير فى التخطيط الاقتصادي.
كنت أنا وسلوى قد اتفقنا على الزواج وبدأنا فى استعادة علاقتنا باللغة الفرنسية فى المركز الثقافى الفرنسى بالمنيرة، ولما تحدد موعد السفر بدأنا نتعاطى الأدوية التى تمنحنا مناعة ضد مرض الملاريا وقررنا أن نتزوج قبل إعداد الشقة وقبل السفر بأسبوعين أو ثلاثة.
وكانت المفاجأة قبل السفر بأيام هى تلكس من المعهد يفيد بتأجيل الدراسة لعدة أسابيع، لأن أمريكا قررت وقف دفع حصتها فى تكاليف المعهد الذى يقوم بإعداد المخططين الأفارقة ولكنه يهاجم أيضا السياسات الاقتصادية الأمريكية والغربية.
وأتاحت مؤتمرات الاقتصاديين المصريين منذ ١٩٧٦ إمكانية رائعة للالتقاء بسمير أمين الذى كان حريصا على المشاركة فى معظم السنوات سواء بتقديم دراسة أو التعقيب على دراسة أو مجرد المناقشة والحوار من القاعة.
وكانت المؤتمرات مناسبة يقترب فيها الأساتذة العظام من الباحثين الجدد والأساتذة هم الذين يركزون أسماعهم وأبصارهم ويلتقطون الباحثين الجادين ويجرون معهم حوارات ربما يكون موضوعها مداخلاتهم القصيرة أو حواراتهم الجانبية فى المؤتمر الذى كان يستمر ٣ أيام كاملة ومضنية ولكنها مليئة بالفرص والمكاسب.
وكانت اللقطة التالية هى لقاءات متناثرة فى باريس منذ ١٩٨٢ نظمها أصدقاء أعزاء من الباحثين المصريين فى باريس خاصة أخى مصطفى وابنة خالى عليات وكلاهما له علاقة علمية قوية بسمير أمين أثناء إعدادهما للحصول على الدبلومات العليا والدكتوراه.
ومع انتهاء سلوى العنترى من إعداد رسالة الدكتوراه فى جامعة باريس عن «أثر النشاط المصرفى العربى فى تكريس اندماج الاقتصاديات العربية فى النظام الرأسمالى الدولى اقترح البروفيسور ميشيل بو المشرف على الرسالة أن تكون لجنة المناقشة برئاسته وعضوية الدكتور سمير أمين والدكتور محمد دويدار وأستاذ فرنسى آخر وبعد أن تمت كتابة اسم سمير أمين وتسلمه نسخة من الرسالة، قامت الجامعة بتحديد موعد المناقشة ليكون فى توقيت غير ملائم بالنسبة لسمير أمين حيث تبين أنه سيكون فى زيارة لجنوب شرق آسيا.. وبالتالى اختارت الجامعة أستاذا آخر، وبقيت لدى سمير أمين ولدينا نسخ من الرسالة مكتوب عليها إنه عضو لجنة المناقشة، إلا أنه أجرى مناقشة مبسطة للرسالة فيما بعد أثناء حضوره حفل عشاء أقيم على شرف المشرف على الرسالة وبعض أعضاء لجنة المناقشة.
وهناك لقطة شديدة الأهمية وكاشفة عن جوهر سمير أمين.. فقد قررت مجموعة من الجمعيات العلمية الدولية والمصرية الاحتفاء بسمير أمين بمناسبة مرور ٨٠ عاما على مولده، ونظمت احتفالا كبيرا ومتميزا يليق به فى خريف ٢٠١١ موزعة ٤ أيام على باخرة بين الأقصر وأسوان يقوم فيها نحو ٢٥ باحثا منهم ١٠ باحثين من مصر والباقى من دول أفريقيا وأوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية بمناقشة أفكار سمير أمين بخصوص التطورات الراهنة فى النظام الدولى وما يتيحه من فرص لدول العالم الثالث أو ما يلقيه عليها من تحديات.
وكان من حسن حظنا أنا وسلوى أن تم اختيارنا لنشارك فى هذه الاحتفالية الهامة لنستمع ونناقش ونشاهد ونعرف ونتعلم، كان الحوار يستمر يوميا لنحو ٨ ساعات مقسمة على جلستين طبقا لبرنامج يسمح للكل بالتحدث دون مقاطعة فى كل النقاط المثارة.
وكان سمير أمين هو الأكثرحرصا من بين الحاضرين جميعا على انعقاد الجلسات فى مواعيدها وامتدادها بطاقة رهيبة وعقل منظم ورغبة جارفة فى الاستماع للآخرين وربط التفاصيل الصغيرة ببعضها البعض لبلورة رؤية أو موقف أو وجهة نظر وقدرة عالية على طرح الأسئلة لاستكمال الصورة وعقد المقارنات بين أوضاع الدول والمجموعات الدولية أو تطور الأوضاع عبر الزمن.
لم يكن سمير أمين يتقبل فعلا كلمات المجاملة والإشادة ولم يفرق فى معاملته للحاضرين بين أستاذ كبير مرموق وبين باحث شاب فى مطلع حياته البحثية.
رحل سمير أمين بجسده تاركا منهجه وأفكاره التى ملأت فضاء الكون ضجيجا وحوارا وأثرت الفكر الاقتصادى والاجتماعى العالمي.