الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حواديت عيال كبرت "8".. أنا و"حنتيرة"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استكمالا لما بدأناه في الحواديت السابقة أو التي من المفترض أن تكون سابقة، إلا أنني بعد مرور أعوام اكتشف أنها تصلح لأي زمان.. فحرس الضريح لم يتغيروا، وفي رواية أخرى لم ولن يتغيروا.. منذ هروبي من «شرطة الكتاب» واختبائي في «عشة الخالة نعيمة»، واستنجادي بجدتي، التي لكي تعيد إليّ روحي المعنوية اصطحبتني لأشاهد «زفة» أحد الأولياء في قريتنا.
خرجنا من حوش الدار على صوت الميكروفونات هذا قبل أن تتحول في عصرنا لبكماء، عربة «كارو» يجلس أعلاها رجال ونساء وأطفال، المنشد يردد أهازيج، يتقدم أهالي القرية إليه.. يدفعون قروشا.. فيصيح الفاتحة لفلان ابن فلان.. وهكذا.. حول «الكارو» صفين من الرجال الأشداء يحملون الأعلام والسيوف يتمايلون على وقع الإنشاد، يلتقي الصفان في المؤخرة عند رجل ضخم يقال له الشيخ «حنتيرة»، عرفت فيما بعد أنه كبير حراس الضريح، الآمر الناهي الذي يحرك «الزفة» بإشارة، وقد أخذ العهد من أحد أبناء الولي الذي لا يظهر بين العوام، لأنه إن ظهر سيتدافعون وسيتقاتلون لتقبيل يده وستقع خسائر كبيرة في الأرواح.
يجثو الحراس على ركبهم واحدا تلو الآخر ويضعوا السيوف على أكتافهم في تلاحم، وفجأة يقفز رجل كان يدعى عبد المعبود، يسير على حافة السيوف واحدا تلو الآخر دون أن تنزف قدماه، يتبع كل قفزة من قفزاته تهليل وتكبير وابتسامة من «حنتيرة».. الذي يومئ لـ«الزفة» لتتحرك قليلا.. يتصدرها أكابر القرية ومتعلميها وكأنها عرس أحد الأعيان.. بائعو الزمامير والطرابيش والترمس يشقون الأرض ويظهرون في كل مكان.. تصفيق حار مع كل فقرة من الفقرات.. الأقدام تحجب عني الرؤيا فتحملني جدتي على كتفها.
يحمل رجل ابنه ويضعه على الكارو ويأخذ الميكروفون من المنشد يعطيه للغلام، يتكلم كلام غير مفهوم، أصرخ لجدتي: «أنا عايز اتكلم في الميكروفون»، تضحك ولا ترد.. يعاود رجل آخر الأمر مع ابنه، فأعاود أنا الطلب من جدتي.. ثالثة ورابعة وأنا لا أمل من تكرار نفس الطلب.. وإذ بها تصرخ: «يا بني مش هينفع دول قرايب الحرس.. دول ولاد خدام الضريح.. وواخدين الأمر من حنتيرة».. لا أفهم ما قالته وأرد عليها: «طب خدي الأمر يا ستي إنتي كمان من حنتيرة.. أنا أشطر من العيال دي كلها وهقول في الميكروفون أحسن منهم يا ستي، أنا كمان حافظ نشيد عن النبي»، تربت على كتفي وتقول: «يا بني لو بالشطارة مكنش حد غلب.. إحنا بنتفرج وبس على الزفة من بعيد ونحط في صندوق النذر أو ننقط في الزفة زي ما أنت شايف ولا نقول ليه ولا إزاي».
في كل وظيفة وفي كل مكان عملت فيه كنت أرى تلك «الزفة» وأشاهد نفس الحنتيرة، وأرى ما قالته لي جدتي يتحقق مع الغلمان..لكن حقيقة لم أعد مشغولا بمن يمسك الميكروفون.. لأني اكتشفت مع مرور الوقت أن بقائهم لا يدوم.. يبقى الراصد والمشاهد الذي يسجل ويتعلم ويكتب التاريخ، هؤلاء الصغار، الذين لو طاوعتهم جداتهم وطلبت الأذن من حنتيرة، لخاصتمهم الكلمة وفرت من أياديهم الأقلام، وأصبحوا كـ«عبد المعبود» في الزفة يتقافزون على السيوف ثم إذا ما فقدوا الحركة والمتعة ركلتهم أقدام الحراس.. فلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.