الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أرض بلا أطلال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
نحب الفن لأنه ينسينا تعاسة الحياة اليومية العادية التى هدفها الأساسى هو نسيانها. ولم يكتشف الإنسان سبيلا إلى ذلك خيرا من المواد الكيميائية التى تساعدنا على النسيان. لقد وقف كارل ماركس مطولا عند وصف وضع العمال فى قرنه العسير. القرن الذى عرف الثورة الصناعية. كان وضعا قد تعرف عليه جيدا حينما هاجر لاجئا إلى إنجلترا، وقد ساعده كثيرا فريدريش إنجلز فى ذلك، «فريد»- كما كان ماركس يكنيه، فريد الذى كان مفكرا اشتراكيا من أتباع جوزيف برودون، وساهم رفقة ماركس فى تشكيل الإطار النظرى لتنظيم علاقات العمل الجديدة التى ينتج عنها أناس مسحوقون إلى درجة لا تطاق... مشروع سيشرف عليه نبلاء وأشباه نبلاء وأصحاب رءوس أموال طائلة- من قبيل إنجلز... وتعد جينى فيستفال ماركس- زوجة ماركس الشهيرة التى هى عالمة اجتماع لا تقل عن زوجها رجاحة عقل ولا أهمية- إحدى أهمهم.
تنويعات
الهدف من كل ذلك هو تجاوز وضع ما تعلن الفلسفة منذ أرسطو عن الغربة فى تجاوزه. الوضع البشري. من الغريب أننا إذا قلنا «الوضع البشري» تناهى إلى الذهن وضع مترد. وأن ما يرتبط به هو «البؤس» كما هى حال رواية أندرى مالرو الشهيرة «الوضع البشري»... أما إذا أردنا فعل أى شيء للوضع البشرى؛ فإنه علينا أن نحسنه.
السؤال الذى يفرض نفسه: هل كل ما هو بشرى بائس واجب تحسينه؟
سيقول لنا مارسيل بروست بطريقته الفنية: «نعم... ألا تلاحظون أن التحف الفنية الكبرى مكتوبة كلها بلغة أجنبية ما؟»... أجنبية بالنسبة إلى ماذا؟... لا يجيبنا بروست. المبدعون الكبار مشهورون بثقافتهم النقدية الخارقة للعادة «البشرية»، ولكنهم لا يخوضون فى التعليق على العالم...أكتب هذا مفكرا فى أبى نواس وهو يفحم الفقهاء فى الجدل الديني، وأفكر فى تأملات أبى تمام النقدية العميقة..
قناعة عمياء كهذه هى التى قادت سارتر فى كتابه «نقد العقل الجدلي» إلى الإدلاء بالشهادة التاريخية الخطيرة التالية: «الماركسية أفق زمننا الذى لا تجاوز له»... قناعة بأن ما أراده ماركس للبشرية أجمل من أن نتمكن منه.. ماركس الذى كان مؤرخا مشغولا بذاكرة الكادحين بالعمال الذين يكدحون فى الأرض، والذين لا يملكون إلى أخاديد الأرض المحروثة ذاكرة لمرورهم غير العالق بالذاكرة.
لقد آمن عصر الأنوار- كما هى حال ماركس من بعده- بأن تفسير الدين يقف خلف كل هذا الخراب. فقد لاحظ التنويريون أن الدين يسهل كثيرا عملية وضع الإنسان فى زاوية البؤس، وإقناعه بأنها الإمكانية الوحيدة الواردة. بل وإقناعه بأن هذا البؤس هو الشرط اللازم والحصرى للحصول على صكوك الجنة. ليتحول الكائن البشرى البائس أصلا وفصلا إلى كائن معتد ببؤسه لأنه بؤس مخلّص لروحه بعد حين.
وقد اخترع القرن ١٩ للعمال الكادحين؛ وهم أبأس خلق الله «خمارات الحي»: أمكنة يمكنهم فيها الشرب حد فقدان الوعي، حد الإغماء... وهذا سبب تسميتها الفرنسية البليغة التى تظهر كعنوان لإحدى أجمل روايات إميل زولا «المَصرع l’assomoir»؛ رواية نشرت بعد أعوام قليلة من نشر الجزء الأول من كتاب ماركس Das Kapital... يمكن للعامل المسحوق من قبل صاحب العمل وأصحاب رءوس المال أن يختزلوا الزمن؛ بحثا عن النسيان... وما سمى الإنسان بالإنسان حسب الأدبيات الحالمة لمعاجم العربية إلا لأنه ينسى. ينسى فيعود إلى العمل فى اليوم الموالي، فيما تحتفظ ذاكرته المتهالكة بذكرى طريق خمارة الحى لكى يصرع ما تبقى من وعى بالبؤس. وجوهر المسألة هو البحث عن أرض بلا ذاكرة لمباشرة ما تبقى من الحياة.
وتأتى الحرب على الكنيسة، ويتردى الدين المسيحى خاصة، ولكن البؤس سيتضاعف أكثر. تتكاثر الآلات فيتكاثر الجشع البشرى، الذى كان ماركس يصوره بلفظة التوحش... الوحش فى عرف المعاجم اللغوية الحالمة النقية الناصعة، وربما يكون هذا الوحش فائق الطيبة فى الظاهر المجتمعى، وفى أعراف أخرى لا تهمها السلامة اللغوية للأشياء.... ربما. ولكنه وحش اقتصادى أكيد يأكل عرق الآخرين ويتحايل لتقليم الأظافر الميتة للعمال الكادحين. 
يلاحظ الفيلسوف الفرنسى ميشال أونفراى فى كتابه «décadences» بأنه لا شيء تغير منذ عصر الأنوار؛ فقد «عوض الشارع الكنيسة، وعوض مكبرات الصوت المحاريب، وتم تعويض صلاة الجماعة والخطبة الملتهبة بالمظاهرات، ولا شيء تغير فى جوهر اللعبة»... والنخب جزء من الآلة الضامنة للبؤس، فالمفكرون والكتاب وكل مَن من شأنه أن يكون ضميرا حيا ناطقا باسم الأغلبية التى لا لسان لها أصبحوا خداما فى المعبد الجديد للعولمة. وحتى الشعار الفلسفى القديم «لا موقع إلا الضدية. أنا موجود إذن أنا فى معارضة وجود ما»... وهو شعار يدخل العالم بالضرورة فى الترسيمة الجدلية التى تفضى على الصراع وعلى الحل غير الأخلاقى لمسائل الحياة والمجتمع.
زبدة القول
كان الفيلسوف الألمانى الكبير وولتر بنيامين يقول: «كل فترة تحلم بما يتحقق فى الفترة الموالية لها»... ولكن الحاصل هو أنه قد ولد جيل جديد يمهد للخراب الذى سيلم بالأجيال المقبلة. وللسياسيين الخضر كلام كثير يدعم هذا الكلام الذى نذهب إليه. ما نوع الأحلام التى سيراها أبناء عصرنا هذا؟... عصر يريد للجميع أن يظل على شبابه الأبدي. سياسة التشبيب الدائم التى تجعل البحث العلمى منشغلا بسبل تمديد عمر الخلية أكثر للرفع من متوسط العمر لكى يبلغ ١٢٠ سنة، حسب بعض المختصين فى الهندسة الوراثية وفلاسفة الإنسانية المدعمة ومنظريها.
الحلم الأكثر قابلية للتحقيق هو ألا ينجب هؤلاء المستحوذون على الحياة خلفا لأنفسهم؛ لأنهم سيكونون هم أنفسهم خلفا لأنفسهم. سكان الأرض التى لا حاجة لها إلى ذاكرة.. لأن الذاكرة هى ذلك الحاضر الذى سيمدد حتى يتمزق. بعضنا سيقول هى قصص من الخيال العلمي. والبعض الآخر سيطلع على أفضل مبيعات الكتب، وكتب الفلسفة- بشكل ما- لعامى ٢٠١٥/٢٠١٦ هو كتاب آشلى فانس «Elon Musk: Tesla، SpaceX، and the Quest for a Fantastic Future»، وهو كما يبدو من العنوان كتاب حول رجل العلم والبحث والتخطيط «إيلون موسك»، الذى يعمل فى ثلاثة ميادين موضوعها هندسة الحياة المستقبلية... وهذا واقع وليس وهما ولا أحلاما ولا خيالا علميا.. وكل هذا يشعرنا بأن المستقبل قد أدركنا أسرع مما توقعنا بكثير.. وأن المستقبل سيكون فى الفضاء.. الفضاء الذى هو أرض بلا أطلال، وبالتالى فهى أرض بلا ذاكرة!