الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ملحمة الخلود.. «جلجامش»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حاول الإنسان الاقتراب من مسألة الموت عن طريق ابتكار مجموعة من الرموز عبرت عنها الأسطورة فى الزمن القديم، وتعبر عنها أحلامه فى الزمن الحديث؛ هذه الرموز- التى تصدر من أعماق الدراما الأسطورية- إنما هى تعبير أصيل عن حاجة عميقة للتحرر والخروج نهائيًا من دائرة الفناء. وبدراسة ما أنتجه فكر الإنسان عبر العصور، نجد أن الموت لم يكن أبدًا مرحلة نهائية من شأنها وضع حد لوجود الفرد بجميع صوره؛ بل اعتبر دومًا بمثابة عملية تُؤَمِّن عبوره لحالة أخرى من الوجود، تختلف- فى كليتها- عن الحالة التى ألفها فى حياته على الأرض.
وفى أساطير بلاد ما بين النهرين، لعبت فكرة الموت دورًا مهمًا، خاصة فى ديانات الخصب التى تقوم أساسًا على فكرة موت الطبيعة وبعثها المتكرر، الذى هو انعكاس لموت الإله وانبعاثه من جديد. وتصف لنا ملحمة «جلجامش» بحث الإنسان عن الحياة الأبدية، ونجد أن الإنسان هو البطل وليس الإله أو مجموعة من الآلهة. ونجد البطل الإنسان تتجاذبه مجموعة من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية المتناقضة من حب وكراهية وفرح وتفاؤل وتشاؤم وأمل ويأس، وغير ذلك من الصفات؛ وقد أمكن مزجها جميعًا ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسى ألا وهو «حقيقة الموت المطلقة». 
وتبدأ الملحمة فى لوحها الأول بالتغنى بأعمال «جلجامش» وصفاته، فتذكر أنه رأى كل شيء وعرف جميع الأشياء، فهو الحكيم العارف بالأسرار والخفايا؛ والذى جاء بأنباء ما قبل الطوفان ورحل إلى بلاد بعيدة، وبعد عودته نقش على الحجر أخبار رحلته. ثم تذكر هذه المقدمة بعض أعمال «جلجامش»، ومنها بناء أسوار مدينة «أوروك» ومعبد «إنانا» أو معبد «عشتار». ويُوْصَف بأنه البطل الشجاع، المكتمل القوة وفيه الجلال والألوهية، وهو الذى فتح كل مجازات الجبال وحفر الآبار فيها، وعبر البحر المحيط، وجاب جهات العالم الأربع، وسعى لينال الحياة الخالدة. وخصه الإله بالبطولة، هيئته كاملة طوله أحد عشر ذراعًا وعرض صدره تسعة أشبار وهيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي.
وبعد هذا التعريف «بجلجامش»، تنطلق الملحمة إلى ذكر بعض أمثلة على عنفه وبطشه وغروره بقوته؛ حيث يضطر شعبه إلى الاستنجاد بالآلهة للتخلص من ظلمه، فتطلب الآلهة من إلهة الخلق «أورو» أن تخلق غريمًا لـ«جلجامش» يستنزف كل قوته فى صراع دائم حتى تخلد مدينة «أوروك» إلى الراحة والسلام، فغسلت إلهة الخلق يديها، وتصورت فى عقلها صورة الإله «أنو»، وأخذت قبضة من طين ورمتها فى البرية فتم خلق «إنكيدو» القوى، الذى يعيش مع حيوانات البرية، ويأكل مع الظباء ويتزاحم على موارد المياه مع الوحوش. 
وتحكى الملحمة أن «جلجامش» يصارعه ويتغلب عليه رغم قوة «إنكيدو» ولهذا السبب يعجب به الملك ويتخذه صديقًا حميمًا. ويقوم الاثنان برحلة إلى غابة الأرز التى يحرسها المارد المخيف- الذى عينه الإله «إنليل»- لأن «جلجامش» أراد وضع اسمه فى سجل الآلهة والخالدين، فقتل المارد بالفعل وعندما انتصر تراه الإلهة «عشتار» فتعجب به وتطلب منه الزواج، ولكنه يرفض فتغضب منه وترسل له «ثور السماء» لينتقم لها، غير أن «جلجامش» يقتل الثور ويمزقه، فتحزن الإلهة (على الثور)، وتلعن «جلجامش»، إلا أن «إنكيدو» صديقه الحميم يرد على لعنات «عشتار» بانتزاع فخذ الثور ويقذفه فى وجهها. ويصدر الحكم الإلهى على «إنكيدو» بالموت، وعندما مات الصديق حزن «جلجامش» حزنًا شديدًا وشعر بمأساة البشر الحقيقية ألا وهى الموت، فترك عرشه وراح يهيم على وجهه باحثًا عن سر الخلود.
انطلق «جلجامش» يسأل كل من يراه عما إذا كان يعرف أسرار الخلود، وأخيرًا روت له عجوز قصة «أوتنابشتم»، الذى يعيش على أطراف الكون بعد أن نجا من الطوفان، فلهذا الإنسان وحده وهب الآلهة الخلود، وهو يعرف أسراره. وهكذا قطع «جلجامش» الجبال والوديان، وتحمل الأخطار، وتحدى المستقبل، حتى وصل إلى الجبل الذى تصل قمته إلى قبة السماء، وتصل جذوره إلى العالم السفلى، ثم دخل إلى ممر طويل مظلم، أدى به إلى بحر لا قرار له (هو البحر الذى يحيط بالأرض كلها)، وكان يقوم فى آخر البحر قصر تعيش فيه «سيدورى»، التى كانت تقيم الولائم للآلهة. فقص عليها «جلجامش» حكايته، وما يسعى إليه، وأخذت بدورها توضح أنه يستحيل عليه تحقيق هذه الأمنية، وتذكره أن الموت حقيقة ملازمة للحياة وأنه نهاية لها.
لكن «جلجامش» أصر على متابعة السير، وخوض المهالك حتى وصل إلى «أوتنابشتم» الذى روى له قصة الطوفان، وكيف جعلته الآلهة خالدًا هو وزوجته، وقد رغب «جلجامش» فى أن يُنعم الآلهة عليه بمثل ما أنعموا على «أوتنابشتم»، عندئذ اقترح عليه هذا أن يتغلب على النوم فوافق «جلجامش»، لكن التعب أرهقه فغفا. ولما استيقظ كان شديد الغضب من نفسه وشرع يعد لرحلة العودة؛ وهنا أخذت زوجة «أوتنابشتم» تتوسل لزوجها أن يكشف لـ «جلجامش» عن السر المكنون، فحكى له عن زهرة شوكية تنمو فى قاع البحر وتخبئ فى جوفها عصيرًا يمنح الشباب الأزلي، وفى اللحظة عينها ربط «جلجامش» إلى قدميه حجرين ثقيلين وغاص إلى قاع البحر وقطف الزهرة ثم أخذ طريق العودة، لكنه توقف فى الطريق عند ينبوع ماء ليغتسل، وفى اللحظة تسلل ثعبان من جحره وخطف الزهرة. خرج «جلجامش» إلى الضفة وأخذ يبكى بكاءً مرًا، لقد أدرك أخيرًا عبثية جهوده، فلن ترحمه الشيخوخة الزاحفة وحتمية الموت. 
إن الكفاح المتواصل لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره الإنساني المحتوم- عن طريق معرفة سر الخلود- ينتهى بالفشل فى نهاية الأمر، ولكن مع هذا الفشل يأتى شعور هادئ بالاستسلام. ونحن نجد لأول مرة فى تاريخ العالم القديم، تجربة عميقة على مثل هذا المستوى البطولى.